فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا} (38)

{ حرج } ضيق ، أو إثم .

{ فرض } قسم وقدر .

{ سنة الله } منهاجه الذي شرعه .

{ خلوا } مضوا .

{ قدرا } شيئا قدره ربنا الحكيم بقدر معلوم ، ولعاقبة محمودة .

{ مقدورا } ليس فيه تفاوت ، ولا تفوته الحكمة .

{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا 38 الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا 39 ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما 40 }

نبأ من العليم الخبير أنه ليس على نبينا البشير النذير من ضيق ولا إثم في أن ينال ما قسم الله تعالى وقضى وأحل من توسعة في عدد الزوجات ، فتلك شرعة ربنا ، وسنته في الذين بعثهم قبل نبينا ، والمولى بحكمته يشرع ما تحمد عاقبته ، وإن خفي على بعض العقول سره ، لكن ربي يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، وما يأمر إلا بما أتقن وأحكم ، ليس فيه تفاوت ، ولا يفوته خير ولا بر ولا رشد ولا إتقان ، [ يروى أن اليهود- قاتلهم الله تعالى- عابوه وحاشاه من العيب صلى الله عليه وسلم- بكثرة النكاح وكثرة الأزواج ، فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : { سنة الله . . } الآية ]{[3639]} ، أقول : وقد انبعث أشقياؤهم وأولياؤهم من الملاحدة وأعداء الدين يفسرون تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن إلا استجابة لدافع شهواني ، وكذبوا ، فأين كان الدافع الشهواني- الذي نسبوه زورا وبهتانا إلى النبي- أين كان يوم تزوج وهو في مقتبل عمره من امرأة ثيب تكبره سنا بخمسة عشر عاما ؟ ولم يتزوج من أخرى حتى ماتت رضي الله تعالى عنها ، وعمره -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك قرابة خمسين سنة ، ولو أراد يومئذ أن يتزوج من أجمل فتيات قريش لما فاته ذلك ، لكنه آثر الزوجة الحكيمة ذات العقل الراجح ، ثم لم يتزوج بعدها بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها ، ولقد دخل بها دون العاشرة من عمرها ، وسائر نسائه- أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن جميعا- كن صواحب بلاء في سبيل هذا الدين ، مثل أم حبيبة رضي الله تعالى عنها ، وهي التي هاجرت إلى الحبشة فارة بدينها معرضة عن جاه أبيها أبي سفيان زعيم قريش يومذاك ، ثم تضاعف بلاؤها فتنصر زوجها وهلك في مغتربه ، ولم ينل هذا البلاء الشديد من إيمانها ، فكرمها ربها وعوضها خير عوض ، فرجعت من مهجرها زوجة لنبيها ، وكذا أم سلمة التي ما كان لها بالرجال من حاجة وإنما هو التشرف بالمقام المقام في بيت النبوة ، وطائفة منهن كان لآبائهن ما يذكر فيشكر من الوفاء بعهد الله ، والصدق في العمل لإعلاء كلمته ونشر دعوته ، كأم المؤمنين حفصة بنت عمر ، أو كانت ذات حسب في قومها ، يرجى به أن يكون سببا في كف الأذى عن المسلمين كأم المؤمنين صفية بنت حيي ، وهل المبعوث إلى الناس كافة ، بل إلى معشر الإنس والجن ، والذي يقوم ذاكرا متهجدا تاليا راكعا ساجدا أدنى من ثلثي الليل ، إلى غسق الليل وقرآن الفجر ، و معظم نهاره معلما مزكيا ، وداعيا وهاديا ، ومعاهدا أو مصالحا أو محاربا ، هل مثل هذا الذي حمل أمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وأدى صلى الله عليه وسلم الأمانة على وجهها ، وبلغ الرسالة ونصح للأمة ، هل مثل هذا النبي السراج المنير يمكن أن يكون انبعاثه لأمر شهواني ؟ حاشا ! بل كان كل سعيه وهمه ، ويقظته ومنامه ابتغاء مرضاة الله ، ودعوة إلى حمله من لدن مولاه : )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين( {[3640]}- والمراد بالقدر عن جمع : المعنى المشهور للقضاء ، وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه . . . والقضاء والقدر يستعمل كل منهما بمعنى الآخر . . . . وظاهر كلام الإمام اختيار أن الأمر واحد الأمور ، وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله : القضاء ما يكون مقصودا له تعالى في الأصل ، والقدر ما يكون تابعا ، والخير كله بقضاء ، وما في العالم من الضرر بقدر . . -{[3641]} .


[3639]:ما بين العلامتين[ ] أورده الألوسي.
[3640]:سورة الأنعام. الآيتان: 162، 163.
[3641]:ما بين العارضتين نقله صاحب روح المعاني.