فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

{ أنعم الله عليه } شرح صدره للإسلام

{ وأنعمت عليه } ربيته وأعتقته وتبنيته وقربته .

{ أمسك عليك } احبس واستدم .

{ مبديه } مظهره .

{ تخشاه } تخافه .

{ وطرا } مقصدا وحاجة .

{ حرج } ضيق أو إثم .

{ أدعيائهم } الذين تبنوهم .

{ مفعولا } متحققا .

{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا 37 }{[3634]}

الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن في الكلام فعلا محذوفا تقديره : واذكر إذ تقول لواحد ممن أكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة ، فشرح صدره للإسلام ، وأنعمت أنت عليه فتعهدته صغيرا بالتربية وأعتقته وفككت رقبته ، فغدا حرا بعد أن كان عبدا ، ثم تبنيته وقربته ، حتى زوجته ابنة عمتك- تقول لهذا المنعم عليه وقد جاء يشكوا إليك نفور زوجته وتكبرها عليه ، ويستأذنك في طلاقها ، وأنت تعظه أن يحرص على الإمساك بزوجته ، وعدم التفريط في صحبتها ، وقد أعلمتك أنه مطلقها ومفارقها تقول ذلك ربما لخشية أن يقول الناس : تزوج من مطلقة ابنه ، أو : رغبه في طلاقها ليتزوجها بعده ، لكن الأحق بالخشية هو الله العليم الخبير ، فلما فرغت حاجة زيد منها ، وطلقها وانقضت عدتها منه زوجتكها ، لئلا يتحرج مؤمن بعد ذلك من تزوج مطلقة متبناه إذا رغب في مثل الزواج .

كما شرعت لكم في كتابي { . . وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما }{[3635]} وإنما الذي حرمته عليكم أن يتزوج مسلم من مطلقة ابنه أو أرملته : ) . . وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم . . ( {[3636]} ، { وكان أمر الله مفعولا } شرعتي نافذة ، وأمري إذا أردت شيئا أن يقول له كن فيكون ، مما أورد صاحب روح المعاني : والمراد بالموصول{ ما الله مبديه } على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن علي بن الحسين رضي الله عنهما ما أوحى الله تعالى به إليه : أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة والسلام ، وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء ، والقشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ، { وتخشى الناس } تخاف من اعتراضهم ، وقيل : أي تستحي من قولهم : إن محمدا صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه ، والمراد بالناس : الجنس أو المنافقون ، وهذا عطف على ما تقدم أو حال . . . وحاصل العتاب : لم قلت : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ وهو مطابق للتلاوة ، لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ، ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه : { زوجناكها } فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا ، وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول . . اه

أقول : ونقل بعض المفسرين عن هؤلاء القصاص فرى على نسق بهتان الإسرائيليين ، وقدحهم في عصمة الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وتلقف المستشرقون المتربصون بالإسلام مثل هذه الفرى ، وكتبوا حولها الكثير من الزور ، ابتغاء الفتنة ، ومضاهاة لما هو مسطور عندهم في العهدين القديم والجديد ، ولما تنضح به نفوسهم من العكوف على الشهوات ، والضغن على الأطهار الداعين إلى الرشد ، ألا إن محمدا الصادق الأمين طهره الله تعالى تطهيرا ، ولبث قبل زواج زيد من زينب-أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها- عمرا هو إلى الشباب أقرب ، ما كان همه إلا للمعالي ، وكيف لا وهو المبعوث لهداية الإنس والجن ، بل لقد كان إبان شبابه وقبل أن تأتيه الرسالة مثال السمو والعفة :

ألم ينعته أكبرهم عتيا *** أمينا صادقا قبل التنبي

طهور الذيل مسموع النداء

وكفى بالله تعالى شهيدا ، فصريح الآية بين في أن المولى الحكيم إنما قضى هذا الأمر{ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا } ، روى البخاري- بسنده – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن هذه الآية{ . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه . . } نزلت في شأن زينب{[3637]} بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما ، مما أورد صاحب تفسير القرآن العظيم . . . الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إليه قال : " اتق الله وأمسك عليك زوجك " فقال : قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه . . . وكان الذي ولى تزويجها منه هو الله عز وجل ، بمعنى أنه أوحى إليه أنه يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر . وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات . اه .

أخرج أحمد ومسلم والنسائي ، وغيرهم عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : " اذهب فاذكرها علي " فانطلق ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري ، فقلت : يازينب أبشري ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك ، قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن ، مما نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن – عن الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن علي بن الحسين- قوله : وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه ، والله أحق أن تخشاه ، وقال النحاس : ليس هذا{[3638]} من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة ، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه ، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه ، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس ، ثم أورد مزيدا من البيان نقله عن القاضي أبي بكر العربي ، فقال : قال ابن العربي : فإن قيل : لأي معنى قال له : { أمسك عليك زوجك } وقد أخبره الله أنها زوجه ؟ قلنا : أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها ، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه من أمرها ، فإن قيل : كيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه ؟ وهذا تناقض ، قلنا : بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة ، لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة ، ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن ، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما ، وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم ، لأن الأولى ألا يطلق ، وقيل : { اتق الله } فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج . . ثم يتابع : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد : " ما أجد في نفسي أوثق منك فأخطب زينب علي " قال : فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وخطبتها ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر- أشاور ، وأستخير ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها ، قلت : معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح وترجم له النسائي : [ صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها ] روى الأئمة – واللفظ لمسلم- عن أنس[ وفيه زيادة – لما انقضت عدة زينب- وليس فيه : ففرحت ] . . ويتابع القرطبي : لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها . . كان يقال زيد بن محمد حتى نزل{ ادعوهم لآبائهم } فقال : أنا زيد بن حارثة وحرم عليه أن يقول : أنا زيد بن محمد ، فلما نزع منه هذا الشرف وهذا الفخر ، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أنه سماه في القرآن . . . ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب نوه به غاية التنويه . اه .


[3634]:ليس في الآية الكريمة نص على الكفاءة ولا على الأحساب، بل ولا على الزواج، وإنما جاء الأمر بالتزويج في آثار ليس من بينها حديث واحد بلغ مبلغ الصحة- فيما أعلم- ولو اقتصر رحمه الله على الاستدلال بما أورد من وقائع لكفته.
[3635]:سورة الأحزاب. من الآية 4 والآية 5.
[3636]:سورة النساء. من الآية 23.
[3637]:وأمها: أميمة بنت عبد المطلب.
[3638]:أي قوله عليه الصلاة والسلام لزيد:" اتق الله وأمسك عليك زوجك" مع علمه صلوات الله عليه وسلامه أن زيدا سيطلقها وستكون من زوجاته.