اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } الآية .

وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم ، وطلبهم المعجزة ، وذلك من وجهين :

الأول : أنَّ عادتهُم العناد ، والمكر ، وعدم الإنصاف ، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه ، فإنهم لا يُؤمنون ، بل يبقون على كفرهم ، وعنادهم ؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين ، ثمَّ رحمهم ، وأنزل المطر على أراضيهم ، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب .

الوجه الثاني : أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه ؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين ، وإنما غرضُهُم الدَّفع ، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة ؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم ، ثم أزالهُ عنهم ، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر .

قوله : " وَإِذَآ أَذَقْنَا " شرطيَّةٌ ؛ جوابها " إذا " الفُجائيَّةُ في قوله : " إذا لهُم مكرٌ " ، والعاملُ في " إذَا " الفُجائيَّة ؛ الاستقرارُ الذي في " لَهُمْ " ، وقد تقدَّم الخلافُ في " إذَا " هذه ، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها ، أو ظرفُ مكان ؟ قال أبو البقاءِ{[18356]} : " وقيل : " إذا " الثانية زمانيَّة أيضاً ، والثانية وما بعدها جواب الأولى " ، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه .

فصل

معنى الآية : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس } يعني : الكفار { رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } أي : راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء .

وقيل : القطر بعد القحط ، " مَسَّتْهُمْ " أي : أصابتهُم .

واعلم : أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ .

وقوله { إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا } قال مجاهد : تكذيب واستهزاء{[18357]} ، وسُمِّي التكذيبُ مكراً ؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة ، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة ، أو التَّخْليط في المناظرة ، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة .

وقال مقاتل : لا يقولون هذا من رزق الله ، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا ، وهو كقوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }{[18358]} [ الواقعة : 82 ] .

وقوله : " في آيَاتِنَا " متعلقٌ ب " مَكْرٌ " ، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة ، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل " مَكْرٌ " .

قوله : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً } " أسرَعُ " مأخوذٌ من " سَرُعَ " ثلاثياً ؛ حكاه الفارسي .

وقيل : بل مِنْ " أسْرَع " وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من " أفعل " ثلاثةُ مذاهب :

الجواز مطلقاً .

المنع مطلقاً .

التَّفصيلُ : بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع ، أو لا فيجوز . وقال بعضهم : " أسْرَعُ " هنا ليست للتفضيل . وهذا ليس بشيءٍ ، إذ السِّياق يردُّه ، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله : " لَهِي أسودُ مِنَ " .

قال أبو حيَّان{[18359]} : " وأما تنظيرُهُ " " أسود من القَار " ب " أسْرَع " ففاسد ؛ لأنَّ " أسْوَد " ليس فعلهُ على وزن " أفْعَل " ، وإنما هو على وزن " فَعِل " نحو : سَوِد فهو أسْود ، ولم يمتنع التَّعجُّب ، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سَوِدَ ، وحَمِرَ ، وأدِمَ ، إلاَّ لكونه لوناً ، وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط " .

قال شهاب الدِّين : تنظيره به ليس بفاسدٍ ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف ، وإن لم يكن على وزن " أفْعَل " ، و " سَوِد " وإن كان على ثلاثةٍ ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة ، إذ هو في معنى " أسْوَد " ، و " حَمِرَ " في معنى أحْمَر ؛ نصَّ على ذلك النحويُّون ، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان .

و " مَكْراً " نصبٌ على التَّمييز ، وهو واجبُ النَّصب ؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من " أفْعَل " فعلاً ، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً ، لصحَّ أن يقال : " سَرُع مَكْرُه " ، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل ، نحو : " زيدٌ أحسنُ فقيهٍ " ، ومعنى " أسْرَعُ مَكْراً " : أعجل عُقُوبة ، وأشدُّ أخذاً ، وأقدر على الجزاء ، أي : عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ .

قوله : { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } قرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد{[18360]} ، والأعرج ، ويعقوب ، ونافع - رضي الله عنهم - في رواية : " يَمْكُرُوْنَ " بياء الغيبة جرياً على ما سبق ، والباقون بالخطاب : مبالغة في الإعلام بمكرهم ، والتفاتاً لقوله : " قُلِ اللهُ " ؛ إذ التقدير : قُلْ لهُمْ ، فناسب الخطاب ، وقوله : " إنَّ رُسُلنَا " التفاتٌ أيضاً ، إذ لو جرى على قوله : " قُلِ اللهُ " ، لقيل : إنَّ رسله ، والمراد بالرُّسل : الحفظة .


[18356]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/26.
[18357]:أخرجه الطبري (6/543-544) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/542) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18358]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/349).
[18359]:ينظر: البحر المحيط 5/140.
[18360]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/107، الكشاف 2/337، المحرر الوجيز 3/112، البحر المحيط 5/140، الدر المصون 4/16.