قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } الآية .
وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم ، وطلبهم المعجزة ، وذلك من وجهين :
الأول : أنَّ عادتهُم العناد ، والمكر ، وعدم الإنصاف ، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه ، فإنهم لا يُؤمنون ، بل يبقون على كفرهم ، وعنادهم ؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين ، ثمَّ رحمهم ، وأنزل المطر على أراضيهم ، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب .
الوجه الثاني : أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه ؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين ، وإنما غرضُهُم الدَّفع ، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة ؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم ، ثم أزالهُ عنهم ، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر .
قوله : " وَإِذَآ أَذَقْنَا " شرطيَّةٌ ؛ جوابها " إذا " الفُجائيَّةُ في قوله : " إذا لهُم مكرٌ " ، والعاملُ في " إذَا " الفُجائيَّة ؛ الاستقرارُ الذي في " لَهُمْ " ، وقد تقدَّم الخلافُ في " إذَا " هذه ، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها ، أو ظرفُ مكان ؟ قال أبو البقاءِ{[18356]} : " وقيل : " إذا " الثانية زمانيَّة أيضاً ، والثانية وما بعدها جواب الأولى " ، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه .
معنى الآية : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس } يعني : الكفار { رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } أي : راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء .
وقيل : القطر بعد القحط ، " مَسَّتْهُمْ " أي : أصابتهُم .
واعلم : أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ .
وقوله { إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا } قال مجاهد : تكذيب واستهزاء{[18357]} ، وسُمِّي التكذيبُ مكراً ؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة ، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة ، أو التَّخْليط في المناظرة ، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة .
وقال مقاتل : لا يقولون هذا من رزق الله ، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا ، وهو كقوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }{[18358]} [ الواقعة : 82 ] .
وقوله : " في آيَاتِنَا " متعلقٌ ب " مَكْرٌ " ، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة ، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل " مَكْرٌ " .
قوله : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً } " أسرَعُ " مأخوذٌ من " سَرُعَ " ثلاثياً ؛ حكاه الفارسي .
وقيل : بل مِنْ " أسْرَع " وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من " أفعل " ثلاثةُ مذاهب :
التَّفصيلُ : بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع ، أو لا فيجوز . وقال بعضهم : " أسْرَعُ " هنا ليست للتفضيل . وهذا ليس بشيءٍ ، إذ السِّياق يردُّه ، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله : " لَهِي أسودُ مِنَ " .
قال أبو حيَّان{[18359]} : " وأما تنظيرُهُ " " أسود من القَار " ب " أسْرَع " ففاسد ؛ لأنَّ " أسْوَد " ليس فعلهُ على وزن " أفْعَل " ، وإنما هو على وزن " فَعِل " نحو : سَوِد فهو أسْود ، ولم يمتنع التَّعجُّب ، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سَوِدَ ، وحَمِرَ ، وأدِمَ ، إلاَّ لكونه لوناً ، وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط " .
قال شهاب الدِّين : تنظيره به ليس بفاسدٍ ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف ، وإن لم يكن على وزن " أفْعَل " ، و " سَوِد " وإن كان على ثلاثةٍ ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة ، إذ هو في معنى " أسْوَد " ، و " حَمِرَ " في معنى أحْمَر ؛ نصَّ على ذلك النحويُّون ، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان .
و " مَكْراً " نصبٌ على التَّمييز ، وهو واجبُ النَّصب ؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من " أفْعَل " فعلاً ، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً ، لصحَّ أن يقال : " سَرُع مَكْرُه " ، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل ، نحو : " زيدٌ أحسنُ فقيهٍ " ، ومعنى " أسْرَعُ مَكْراً " : أعجل عُقُوبة ، وأشدُّ أخذاً ، وأقدر على الجزاء ، أي : عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ .
قوله : { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } قرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد{[18360]} ، والأعرج ، ويعقوب ، ونافع - رضي الله عنهم - في رواية : " يَمْكُرُوْنَ " بياء الغيبة جرياً على ما سبق ، والباقون بالخطاب : مبالغة في الإعلام بمكرهم ، والتفاتاً لقوله : " قُلِ اللهُ " ؛ إذ التقدير : قُلْ لهُمْ ، فناسب الخطاب ، وقوله : " إنَّ رُسُلنَا " التفاتٌ أيضاً ، إذ لو جرى على قوله : " قُلِ اللهُ " ، لقيل : إنَّ رسله ، والمراد بالرُّسل : الحفظة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.