اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (31)

قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض } الآية .

لمَّا ذكر فضائح عبدة الأوثان ، أتبعها بذكر الدَّلائل الدَّالَّة على فسادِ هذا المذهب : وهي أحوال الرزق ، وأحوال الحواس ، وأحوال الموْتِ والحياة : أمَّا الرزقُ ، فإنَّه إنَّما يحصل من السماء والأرض : أمَّا من السَّماء ، فبنُزُول المطر الموافق ، وأمَّا من الأرض ، فلأنَّ الغذاء إمَّا أن يكون نباتاً ، أو حيواناً : أمَّا النبات فلأنَّ الأرض تُنبتُه ، وأمَّا الحيوانُ ، فهو محتاجٌ أيضاً إلى الغذاء ، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوانٍ ، حيواناً آخر ، وإلا لزم التَّسلسل ، وهو محالٌ ، فثبت أنَّ غذاء الحيوان ، يجب انتهاؤه إلى النَّبات ، والنبات إنما يتولَّد من الأرض ، فثبت أنَّ الرزق إنما يحصلُ من السَّماء والأرض ، ولا مُدَبِّر لهما إلاَّ الله - تعالى - ، وأمَّا أحوال الحواسِّ فكذلك ، قال عليٌّ - رضي الله عنه - : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظمٍ ، وأنْطَق بلحم .

قوله : " مِّنَ السمآء " : " مِنْ " يجُوزُ أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، وأن تكون لبيان الجنس ، ولا بُدَّ على هذين الوجهين من مضاف محذوف ، أي : من أهل السَّماء ، قوله : " أمْ " المنقطعة ؛ لأنَّهُ لم تتقدَّمها همزةُ استفهام ولا تسوية ، ولكن إنَّما تُقدَّر هنا ب " بل " وحدها ، دون الهمزة ، وقد تقرَّر أنَّ المنقطعة عند الجمهور تُقدَّر بهما ، وإنما لم تتقدَّر هنا ب " بل " والهمزة ؛ لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح ، وهو " مَنْ " ، فهو كقوله - تعالى - : { أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 84 ] ، والإضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن ، أنه إضرابُ انتقالٍ ، لا إضرابُ إبطالٍ .

قوله : { وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .

قيل : يخرج الإنسان من النطفة ، والطائر من البيضة ، { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } : يخرج النُّطفة والبيضة من الإنسان ، والطَّائر ، وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، ثم قال : { وَمَن يُدَبِّرُ الأمر } وهذا كلام كليٌّ ؛ لأنَّ تدبير أقسام الله في العالم العُلويِّ ، والسُّفلي أمور لا نهاية لها ، وذكرها كالمُتعذِّر ، فلمَّا ذكر بعض تلك التفاصيل ؛ عقَّبها بالكلام الكلِّي ليدلَّ على الباقي ، ثم بيَّن أنَّ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ، إذا سألهم عن مُدَبِّر هذه الأمور ، فسيقولون هو الله ، وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطبين بهذا الكلام ، كانُوا يعرفون الله تعالى ، ويقرون به ، وهم الذين قالوا في عبادتهم الأصنام : إنَّها تُقربنا إلى الله زُلْفَى ، وأنَّهم شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يعلمُون أنَّ هذه الأصنام ، لا تنفع ولا تضرُّ ، فعند ذلك قال لرسوله : { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } الشرك مع هذا الإقرار ، وقيل : أفلا تخافون عقابه في شِرْكِكُم ؟ .