قوله تعالى : { والذين كَسَبُواْ السيئات } الآية .
لمَّا شرح حال المسلمين ، شرح بعدهُ حال المُسيئين .
قوله : { والذين كَسَبُواْ } : فيه سبعةُ أوجه :
أحدها : أن يكون " والذين " : نسقاً على " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ " ، أي : لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى ، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها ، فيتعادل التَّقسيم ، كقولك : في الدَّار زيد ، والحجرة عمرٌو ، وهذا يسمِّيه النحويُّون : عطفاً على معمولي عاملين ، وفيه ثلاثة مذاهب :
أحدها : الجواز مطلقاً ، وهو قول الفرَّاء .
والثاني : المنعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه .
الثالث : التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو : في الدَّار زيدٌ ، والحجرة عمرو ، فيجوز ، أو لا ، فيمتنع نحو : إن زيداً في الدَّار ، وعمراً في القصر ، أي : وإنَّ عمراً في القصر ، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ ، كقوله - تعالى - : { واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الجاثية : 5 ] بنصب " آيَات " في قراءة الأخوين ، على ما سيأتي ؛ كقوله : [ المتقارب ]
أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ *** ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا{[18418]}
أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً *** بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا{[18419]}
وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله - ، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله : ابن عطيَّة ، وأبو القاسم الزمخشري .
الثاني : أن " الَّذينَ " مبتدأ ، و " جَزَآءُ سَيِّئَةٍ " مبتدأ ثانٍ ، وخبره " بمثلها " ، والباء فيه زائدةٌ ، أي : وجزاءُ سيئةٍ مثلها ، كقوله - تعالى - : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] كما زيدتْ في الخبرِ ، كقوله : [ الوافر ]
فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها *** ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ{[18420]}
فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا *** فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ{[18421]}
أي : المُجرِّب ، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية .
الثالث : أنَّ الباء ليست بزائدةٍ ، والتقدير : مقدَّر بمثلها ، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول .
والرابع : أنَّ خبر " جزاء سيَّئةٍ " محذوفٌ ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله : " لهم جزاءُ سيئة " ، قال : ودلَّ على تقدير " لَهُمْ " ، قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } حتى تتشاكل هذه بهذه ، وقدَّرهُ أبو البقاء : جزاءُ سيِّئة مثلها واقع ، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول ، وعلى هذين التقديرين ، فالباء متعلقةٌ بنفس " جزاءُ " ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ ، قال - تعالى - : { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } [ سبأ : 17 ] ، { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } [ الإنسان : 12 ] إلى غير ذلك .
فإن قلت : أين الرَّابطُ بين هذه الجملة ، والموصول الذي هو المبتدأ .
قلت : على تقدير الحوفيُّ ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً ، وعلى تقدير أبي البقاء : هو محذوفٌ ، تقديره : جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ ، نحو : " السَّمْنُ منوانِ بدرهم " ، وهو حذفٌ مُطَّرِد ، لما عرف .
الخامس : أن يكون الخبرُ ، الجملة المنفيَّة من قوله : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } ، ويكون " مِنْ عَاصمٍ " إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله ؛ لاعتماده على النَّفي ، وإمَّا مبتدأ ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه ، و " مِنْ " مزيدة فيه على كلا القولين ، و " مِنَ الله " متعلِّق ب " عَاصِم " ، وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه ، وما استدلَّ به عليه .
السادس : أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة ، من قوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } ، و " كأنَّما " حرف مكفوف ، و " مَا " هذه زائدة ، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة ، وتقدَّم ذلك [ البقرة : 11 ] . وعلى هذا الوجه ، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ .
السابع : أنَّ الخبر هو الجملة من قوله : { أولئك أَصْحَابُ النار } ، وعلى هذا القول ، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة .
وهي : { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } .
والثانية : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } .
والثالثة : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } .
الرابعة : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ } ، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع .
قوله : " وَتَرْهَقُهمْ " فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الحال ، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها ، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره ، وفيه ضعفٌ ؛ لمباشرته الواو ، إلاَّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف .
الثاني : أنَّها معطوفةٌ على " كَسَبُوا " .
قال أبو البقاء : وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي ، فإن قيل : هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً ، وقرئ{[18422]} : " ويرْهَقُهمْ " بالياء من تحت ؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ .
قوله : " قطعاً " قرأ ابنُ كثير{[18423]} ، والكسائي ، " قِطْعاً " بسكون الطاء ، والباقون بفتحها : " فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها : فقال أهل اللغة : " القِطْع " : ظُلْمَة آخر الليل .
وقال الأخفش في قوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } [ الحجر : 65 ] بسواد من الليل ، وقال بعضهم : " طائف من الليل " ، وأنشد الأخفش :
افتحي الباب فانظري في النجومِ *** كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ " قطعة " نحو : دِمْنة ودِمَن ، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب " مظلماً " ، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً ل " قِطْعاً " ، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد ، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حالٌ من " قِطْعاً " ، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو " من الليل " .
والثاني : أنه حالٌ من " الليل " .
والثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة .
قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جعلت " مظلماً " حالاً من " الليل " فما العاملُ فيه ؟ قلت : لا يخلو : إما أن يكون " أغْشِيَتْ " من قبل أنَّ " من الليل " صفةٌ لقوله : " قِطْعاً " ، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة ، وإما أن يكون معنى الفعل في " من الليل " . قال أبو حيان : " أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعاملُ في " من الليل " هو الاستقرار ، و " أغْشِيَتْ " عاملٌ في قوله : " قطعاً " الموصوف بقوله : " من الليل " فاختلفا ، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى ، أي : قطعاً مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه " .
وقال شهاب الدِّين : ولا يعني الزمخشري بقوله : " إنَّ العامل أغْشِيَتْ " ، إلاَّ أن الموصوف ، وهو " قِطْعاً " معمول ل " أغْشِيَتْ " ، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة .
قال شهاب الدين : والصِّفةُ هي " مِنَ الليل " فهي معمولةٌ ل " أغْشِيَتْ " ، وهي صاحبةُ الحال ، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال ، فجاء من ذلك أنَّ العامل في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة ، ويجوز أن يكون " قِطْعاً " : جمع قِطْعَة ، أي : اسم جنسٍ لها ، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير ، نحو : { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ، والتأنيث ، نحو : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] .
وأمَّا قراءة الباقين ، فقال مكِّي ، وغيره : إنَّ " مظلماً " حالٌ من " اللَّيْلِ " فقط ، ولا يجوز أن يكون صفة ل " قِطعاً " ، ولا حالاً منه ، ولا من الضمير في " مِنَ اللَّيل " ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه : مظلمةٌ ، يعنُون : أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ ، وكذا صاحب الحال ، فتجب المطابقةُ . وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء ، وقالوا : جَازَ ذلك ؛ لأنَّه في معنى الكثير ، وهذا فيه تعسُّفٌ .
وقرأ أبيٌّ{[18424]} " يَغْشَى وجوههم قطع " بالرفع ، و " مُظْلمٌ " ، وقرأ ابن أبي{[18425]} عبلة كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الطَّاء . وإذا جعلتَ " مُظْلماً " ، نعتاً ل " قِطْعاً " ، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح .
قال ابن عطيَّة{[18426]} : فإذا كان نعتاً - يعني : مُظلماً : نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة : قطعاً استقرَّ مظلماً ، على نحو قوله : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 92 ] .
قال أبو حيَّان{[18427]} : " ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل ، فيكون جملة ، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد ، والتقدير : قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً " .
قال شهاب الدِّين{[18428]} : " المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح ، ولو كان مُقدَّراً بمفرد " ، و " قِطَعاً " : منصوبٌ ب " أغْشِيتْ " ، مفعولاً ثانياً .
المعنى : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } ؛ لقوله : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] .
والفرق بين الحسنات والسيئات : أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً ، وذلك حسن ، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة ، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات ، فهو ظلمٌ ، والله منزله عنه ، ثم قال : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : هوانٌ وتحقير { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي : ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا ، ولا في الآخرة ، { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } أي : أُلْبِسَتْ وجوههم ، { قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } والمراد : سوادُ الوجه .
وقال حكماء الإسلام : المرادُ من هذا السَّواد ، سوادُ الجَهْل ، وظلمةُ الضَّلالة ، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور ، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة .
قيل : المراد بقوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات } : الكفار ؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر ، قال تعالى : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } [ آل عمران : 106 ] وقال : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 40-42 ] .
وقال القاضي : { والذين كَسَبُواْ السيئات } عامٌّ يتناول الكافر ، والفاسق ، وأجيبُ : بأن الصيغة وإن كانت عامَّة ، إلاَّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة ، ثم قال : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .