اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (26)

قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } الآية .

لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام ، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها ، فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } أي : أحسنوا العمل في الدُّنيا ، فأتوا المأمورات ، واجتنبوا المنهيات .

وقال ابن عبَّاسٍ : للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلاَّ الله ، فأمَّا الحُسْنَى : فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة : فقال أبو بكر الصِّدِّيق ، وحذيفة ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت : هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي{[18401]} .

روى ابن أبي ليلى ، عن صهيبٍ قال : " قرأ رسُول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال : إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ ، نادى منادٍ : يا أهل الجنَّة : إنَّ لكم عند الله موعداً ، قالوا : ما هذا الموعدُ ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا ، ويُبيض وُوجوهنا ، ويدخِلْنَا الجنَّة ، ويُنْجِنَا من النَّارِ ؟ قال : فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله - عزَّ وجلَّ - ، قال : " فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ " {[18402]} ويؤيد هذا قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] .

وقالت المعتزلةُ : لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية ، لوجوه :

أحدها : أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ .

وثانيها : أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة .

وثالثها : أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه ؛ لأنَّ النظر : عبارةٌ عن تقليب الحدقة ، إلى جهة المرئيِّ ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة ؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص ، وذلك يوجبُ التشبيه ، فثبت أنَّ هذا اللفظ ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية ، فوجب حملهُ على شيء آخر . قال الجبائي : الحُسْنَى : هي الثَّواب المستحق ، والزِّيادة : ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل ، كقوله - تعالى - : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [ فاطر : 30 ] ، ونقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، أنه قال : " الزِّيادة : غرفة من لُؤلؤة واحدة " {[18403]} .

وعن ابن عبَّاسٍ : " الحُسْنَى : هي الحسنة ، والزِّيادة عشرُ أمثالها " {[18404]} ، وعن الحسن : " عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف " {[18405]} ، وعن مجاهد : " الزيادة : مغفرة من الله ورضوان " {[18406]} .

وعن يزيد بن سمرة : " الزِّيادة : أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة ، فتقول : ما تُرِيدُون أن أمطركُم ، فلا يُريدُون شيئاً إلاَّ أمطرتهم " {[18407]} .

وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه ، فقالوا : أمَّا قولهم : إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى - ، فهذا ممنوع ؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول : أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور ، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب ؟ " {[18408]} حين سألوه عن رؤية الله - تعالى - ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر ؟ " {[18409]} فوجب إجراؤها على ظواهرها .

وقولهم : " الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه " ، فنقول : المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن ، كانت الزِّيادةُ من جنسها ، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن ، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له ، مثال الأول : قول الرَّجُل لغيره : أعطْيتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة ، فتكون تلك الزيادة من الحنطة ، ومثال الثاني : قوله أعطيتك الحنطة وزيادة ، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة .

فلفظ : " الحُسْنَى " : وهي الجنَّة ، مطلقة ، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن ، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة .

وقوله : " الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه ، وذلك يوجب التشبيه " ، فنقولُ : قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم ، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية ، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده .

فصل

قال أبو العبَّاس المقري : وردت الحُسْنَى على أربعة معان :

الأول : بمعنى الجنَّة ، قال - تعالى - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] .

الثاني : الحسنى : الصَّلاح ، قال - تعالى - : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] أي : الصَّلاح .

الثالث : البنون ، قال - تعالى - : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى } [ النحل : 62 ] أي : البنُون .

الرابع : الخلف في النفقة ، قال - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى } [ الليل : 5-6 ] أي : بالخلف ، ومثله { وَكَذَّبَ بالحسنى } [ الليل : 9 ] .

قوله : " وَلاَ يَرْهَقُ " فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مستأنفةٌ .

والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل في هذه الحال : الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ ، وهو " للَّذين " لوقوعه خبراً عن " الحُسْنَى " ، قاله أبو البقاء ، وقدَّره بقوله : " استقرَّ لهم الحسنى ، مضموناً لهم السَّلامة " ، وهذا ليس بجائزٍ ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا ب " لا " ، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت ، وإن ورد ما يُوهم ذلك ، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [ المائدة : 54 ] .

والثالث : أنها في محلِّ رفع نسقاً على " الحُسْنَى " ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى ، وأنْ لا يرهق ، أي : وعدم رهقهم ، فلمَّا حذفت " أنْ " رفع الفعلُ المضارع ؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار " أن " الناصبة ، وهذا كقوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] أي : أن يريكم ، وقوله : " تسْمَع بالمُعَيدي ، خيرٌ من أن تراه " .

وقوله : [ الطويل ]

ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى *** . . . {[18410]}

أي . أن أحضر ، روي برفع " أحْضُر " ونصبه ، ومنع أبو البقاء هذا الوجه ، وقال : " ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " الحُسْنَى " ؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر ، احتاج إلى " أنْ " ذكراً ، أو تقديراً ، و " أنْ " غير مقدَّرة ؛ لأن الفعل مرفوعٌ " . فقوله : " وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ ؛ لأنَّ الفعل " مرفوع " ليس بجيِّد ؛ لأن قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] معه " أنْ " مقدَّرة ، مع أنه مرفوع ، ولا يلزم من إضمار " أنْ " نصب المضارع ، بل المشهور أنَّهُ : إذا أضمرت " أنْ " في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة ، ارتفع الفعلُ ، والنصب ] قليلٌ جدّاً .

فصل

والرَّهق : الغشيان ، يقال : رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً ، أي : غشيهُ بسرعة ، ومنه { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي } [ الكهف : 73 ] ، { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] . يقال : رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو : رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه ، ففعل وأفعل بمعنًى ، ومنه : " أرْهَقْت الصَّلاة " ، إذا أخَّرْتَها ، حتى غَشِي وقتُ الأخرى ، ورجلٌ مُرْهقٌ ، أي : يغشاه الأضياف .

وقال الأزهريُّ{[18411]} : " الرَّهَقُ : اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ ، ويقال : أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ ، أي : أعْجَلْتُه عنها " .

وقال بعضهم : أصل الرَّهقِ ، المقاربةُ ، ومنه غلامٌ مراهقٌ ، أي : قارب الحلم ، ومنه الحديث " ارْهَقُوا القبلة " ، أي : أقربُوا منها ، ومنه : رهقت الكلابُ الصَّيدَ ، أي : لحقته ، والقَتَر والقَتَرة ، الغُبَارُ معه سوادٌ ؛ وأنشدوا للفرزدق : [ البسيط ]

مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ *** مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا{[18412]}

أي : غبار العسكر ، وقيل : القَتَرُ : الدُّخان ، ومنه : قُتارُ القِدْر ، وقيل : القَتْر : التَّقليل ، ومنه { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] ، ويقال : قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته ، أي : قَلَّلتُه ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } [ البقرة : 236 ] وقد تقدَّم ، والقترة ، نامُوس الصَّائد ، وقيل : الحفرة ، ومنه قول امرئ القيس : [ المديد ]

رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ *** مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه{[18413]}

أي : في حُفرتهِ التي يحفُرها ، وقرأ الحسن ، وعيسى{[18414]} بن عمر ، وأبو رجاء ، والأعمش : " قَتْرٌ " ، بسكون التاء ، وهما لغتان : قَتْر وقَتَر ، كقَدْر وقَدَر .

فصل

المعنى : لا يَغْشَى وجوههم قتر : غبار ، جمع قترة ، وقال ابن عبَّاس ، وقتادة : سواد الوُجُوه ، " ولا ذلَّةٌ " : هوان{[18415]} ، وقال قتادة : " كآبة " {[18416]} قال ابن أبي ليلى : " هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم " {[18417]} ، { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } إشارة إلى كونها دائمة ، آمنة من الانقطاع .


[18401]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/549-550) عن أبي بكر الصديق وعامر بن سعد وحذيفة وأبي موسى والحسن وعكرمة وذكره البغوي في "تفسيره" (2/351) عن هؤلاء. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/548 -548) عن أبي بكر وحذيفة وأبي موسى وعامر بن سعد وقتادة والضحاك. وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبي الشيخ والدارقطني في "الرؤية" وابن مندة في "الرد على الجهمية" وابن مردويه والآجري والبيهقي كلاهما في "الرؤية" عن أبي بكر الصديق. وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني واللالكائي والآجري والبيهقي عن حذيفة. وعزاه إلى هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني واللالكائي والبيهقي عن أبي موسى. وعزاه إلى الدارقطني عن عامر بن سعد. وعزاه إلى الدارقطني عن الضحاك.
[18402]:أخرجه مسلم (1/163) كتاب الإيمان: باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم حديث (298/181) وأحمد (4/333) وابن ماجه (187) والترمذي (3105) والطبري (6/551). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/546) وزاد نسبته إلى الطيالسي وهناد وابن خزيمة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني في "الرؤية" وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن صهيب.
[18403]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/552) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في "الرؤية".
[18404]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/552) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/549) وعزاه إلى الطبري.
[18405]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/552) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/549) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[18406]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/552) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/549) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[18407]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (8/211) والرازي في "تفسيره" (17/63).
[18408]:أخرجه البخاري (11/453-454) كتاب الرقاق: باب الصراط جسر جهنم (6573، 6574) ومسلم (1/163) كتاب الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية (299/182) وأحمد (2/275، 293، 354).
[18409]:انظر: الحديث السابق.
[18410]:تقدم.
[18411]:ينظر: تهذيب اللغة 5/397.
[18412]:ينظر البيت في ديوانه 1/234 ومجاز القرآن 277 والبحر المحيط 5/148 واللسان (قتر) والطبري 11/69 والصحاح 2/785 والدر المصون 4/23.
[18413]:ينظر البيت في ديوانه ص123 والأغاني 9/95 والشعر والشعراء 1/131 وشرح شواهد الشافية ص 466 وشرح المفصل لابن يعيش 10/37 والدر المصون 4/23.
[18414]:ينظر: إتحاف 2/108، المحرر الوجيز 3/116، البحر المحيط 5/149، الدر المصون 4/23.
[18415]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/553) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/549) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
[18416]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/351).
[18417]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/553) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/549) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي الشيخ والدارقطني في "الرؤية".