قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } الآية .
لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام ، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها ، فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } أي : أحسنوا العمل في الدُّنيا ، فأتوا المأمورات ، واجتنبوا المنهيات .
وقال ابن عبَّاسٍ : للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلاَّ الله ، فأمَّا الحُسْنَى : فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة : فقال أبو بكر الصِّدِّيق ، وحذيفة ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت : هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي{[18401]} .
روى ابن أبي ليلى ، عن صهيبٍ قال : " قرأ رسُول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال : إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ ، نادى منادٍ : يا أهل الجنَّة : إنَّ لكم عند الله موعداً ، قالوا : ما هذا الموعدُ ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا ، ويُبيض وُوجوهنا ، ويدخِلْنَا الجنَّة ، ويُنْجِنَا من النَّارِ ؟ قال : فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله - عزَّ وجلَّ - ، قال : " فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ " {[18402]} ويؤيد هذا قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] .
وقالت المعتزلةُ : لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية ، لوجوه :
أحدها : أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ .
وثانيها : أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة .
وثالثها : أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه ؛ لأنَّ النظر : عبارةٌ عن تقليب الحدقة ، إلى جهة المرئيِّ ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة ؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص ، وذلك يوجبُ التشبيه ، فثبت أنَّ هذا اللفظ ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية ، فوجب حملهُ على شيء آخر . قال الجبائي : الحُسْنَى : هي الثَّواب المستحق ، والزِّيادة : ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل ، كقوله - تعالى - : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [ فاطر : 30 ] ، ونقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، أنه قال : " الزِّيادة : غرفة من لُؤلؤة واحدة " {[18403]} .
وعن ابن عبَّاسٍ : " الحُسْنَى : هي الحسنة ، والزِّيادة عشرُ أمثالها " {[18404]} ، وعن الحسن : " عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف " {[18405]} ، وعن مجاهد : " الزيادة : مغفرة من الله ورضوان " {[18406]} .
وعن يزيد بن سمرة : " الزِّيادة : أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة ، فتقول : ما تُرِيدُون أن أمطركُم ، فلا يُريدُون شيئاً إلاَّ أمطرتهم " {[18407]} .
وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه ، فقالوا : أمَّا قولهم : إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى - ، فهذا ممنوع ؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول : أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور ، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب ؟ " {[18408]} حين سألوه عن رؤية الله - تعالى - ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر ؟ " {[18409]} فوجب إجراؤها على ظواهرها .
وقولهم : " الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه " ، فنقول : المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن ، كانت الزِّيادةُ من جنسها ، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن ، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له ، مثال الأول : قول الرَّجُل لغيره : أعطْيتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة ، فتكون تلك الزيادة من الحنطة ، ومثال الثاني : قوله أعطيتك الحنطة وزيادة ، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة .
فلفظ : " الحُسْنَى " : وهي الجنَّة ، مطلقة ، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن ، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة .
وقوله : " الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه ، وذلك يوجب التشبيه " ، فنقولُ : قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم ، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية ، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده .
قال أبو العبَّاس المقري : وردت الحُسْنَى على أربعة معان :
الأول : بمعنى الجنَّة ، قال - تعالى - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] .
الثاني : الحسنى : الصَّلاح ، قال - تعالى - : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] أي : الصَّلاح .
الثالث : البنون ، قال - تعالى - : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى } [ النحل : 62 ] أي : البنُون .
الرابع : الخلف في النفقة ، قال - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى } [ الليل : 5-6 ] أي : بالخلف ، ومثله { وَكَذَّبَ بالحسنى } [ الليل : 9 ] .
قوله : " وَلاَ يَرْهَقُ " فيه ثلاثة أوجه :
والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل في هذه الحال : الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ ، وهو " للَّذين " لوقوعه خبراً عن " الحُسْنَى " ، قاله أبو البقاء ، وقدَّره بقوله : " استقرَّ لهم الحسنى ، مضموناً لهم السَّلامة " ، وهذا ليس بجائزٍ ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا ب " لا " ، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت ، وإن ورد ما يُوهم ذلك ، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [ المائدة : 54 ] .
والثالث : أنها في محلِّ رفع نسقاً على " الحُسْنَى " ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى ، وأنْ لا يرهق ، أي : وعدم رهقهم ، فلمَّا حذفت " أنْ " رفع الفعلُ المضارع ؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار " أن " الناصبة ، وهذا كقوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] أي : أن يريكم ، وقوله : " تسْمَع بالمُعَيدي ، خيرٌ من أن تراه " .
ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى *** . . . {[18410]}
أي . أن أحضر ، روي برفع " أحْضُر " ونصبه ، ومنع أبو البقاء هذا الوجه ، وقال : " ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " الحُسْنَى " ؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر ، احتاج إلى " أنْ " ذكراً ، أو تقديراً ، و " أنْ " غير مقدَّرة ؛ لأن الفعل مرفوعٌ " . فقوله : " وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ ؛ لأنَّ الفعل " مرفوع " ليس بجيِّد ؛ لأن قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] معه " أنْ " مقدَّرة ، مع أنه مرفوع ، ولا يلزم من إضمار " أنْ " نصب المضارع ، بل المشهور أنَّهُ : إذا أضمرت " أنْ " في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة ، ارتفع الفعلُ ، والنصب ] قليلٌ جدّاً .
والرَّهق : الغشيان ، يقال : رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً ، أي : غشيهُ بسرعة ، ومنه { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي } [ الكهف : 73 ] ، { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] . يقال : رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو : رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه ، ففعل وأفعل بمعنًى ، ومنه : " أرْهَقْت الصَّلاة " ، إذا أخَّرْتَها ، حتى غَشِي وقتُ الأخرى ، ورجلٌ مُرْهقٌ ، أي : يغشاه الأضياف .
وقال الأزهريُّ{[18411]} : " الرَّهَقُ : اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ ، ويقال : أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ ، أي : أعْجَلْتُه عنها " .
وقال بعضهم : أصل الرَّهقِ ، المقاربةُ ، ومنه غلامٌ مراهقٌ ، أي : قارب الحلم ، ومنه الحديث " ارْهَقُوا القبلة " ، أي : أقربُوا منها ، ومنه : رهقت الكلابُ الصَّيدَ ، أي : لحقته ، والقَتَر والقَتَرة ، الغُبَارُ معه سوادٌ ؛ وأنشدوا للفرزدق : [ البسيط ]
مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ *** مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا{[18412]}
أي : غبار العسكر ، وقيل : القَتَرُ : الدُّخان ، ومنه : قُتارُ القِدْر ، وقيل : القَتْر : التَّقليل ، ومنه { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] ، ويقال : قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته ، أي : قَلَّلتُه ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } [ البقرة : 236 ] وقد تقدَّم ، والقترة ، نامُوس الصَّائد ، وقيل : الحفرة ، ومنه قول امرئ القيس : [ المديد ]
رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ *** مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه{[18413]}
أي : في حُفرتهِ التي يحفُرها ، وقرأ الحسن ، وعيسى{[18414]} بن عمر ، وأبو رجاء ، والأعمش : " قَتْرٌ " ، بسكون التاء ، وهما لغتان : قَتْر وقَتَر ، كقَدْر وقَدَر .
المعنى : لا يَغْشَى وجوههم قتر : غبار ، جمع قترة ، وقال ابن عبَّاس ، وقتادة : سواد الوُجُوه ، " ولا ذلَّةٌ " : هوان{[18415]} ، وقال قتادة : " كآبة " {[18416]} قال ابن أبي ليلى : " هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم " {[18417]} ، { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } إشارة إلى كونها دائمة ، آمنة من الانقطاع .