اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (30)

قوله تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ } الآية .

في " هُنالِكَ " وجهان :

أظهرهما : بقاؤه على أصله ، من دلالته على ظرف المكان ، أي : في ذلك الموقف الدَّحض ، والمكان الدَّهش . وقيل : هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة ، ومثله { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] ، أي : في ذلك الوقت ؛ وكقوله : [ الكامل ]

وإذَا الأمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ *** فهُناكَ يَعْترِفُون أيْنَ المفْزعُ{[18439]}

وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه ، فهو أولى .

وقرأ الأخوان{[18440]} " تَتْلُو " بتاءين منقوطتين من فوق ، أي : تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها ، ومن هذا قوله : [ الرجز ]

إنَّ المُريبَ يتْبَعُ المُرِيبَا *** كَمَا رَأيْتَ الذِّيبَ يتلُو الذِّيبَا{[18441]}

أي : يتبعه ويتطلَّبه ، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة ، أي : تقرأ كلُّ نفس ما عملته مسطَّراً في صحف الحفظة ، لقوله - تعالى - : { يا ويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] ، وقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] .

وقرأ الباقون : " تَبْلُوا " من البلاء ، وهو الاختبار ، أي : يعرف عملها : أخيرٌ هو أم شر ، وقرأ عاصم في رواية " نَبلو " {[18442]} بالنُّون والباء الموحَّدة ، أي : نَخْتَبر نحنُ ، و " كُلَّ " منصُوب على المفعول به ، وقوله " مَا أسْلفَتْ " على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلِّ نصبٍ ، على إسقاطِ الخافض ، أي : بما أسْلفَتْ ، فلمَّا سقط الخافض ، انتصب مَجْرُوره ؛ كقوله : [ الوافر ]

تَمُرُّونَ الدِّيارَ فَلَمْ تَعُوجُوا *** كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرَامُ{[18443]}

ويحتمل أن يكون منصوباً على البدل من " كُلُّ نَفْسٍ " ويكون من بدل الاشتمال . ويجُوزُ أن يكون " نَبْلُو " من البلاء ، وهو العذاب . أي : نُعَذبها بسبب ما أسلفت ، و " مَا " يجوز أن تكون موصولةً اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والعائدُ محذوفٌ على التقدير الأول ، والآخر دون الثاني على المَشْهُور .

وقرأ ابنُ{[18444]} وثَّاب : " وَرِدُّوا " بكسر الرَّاء ، تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة ، نحو : " قيل " و " بيع " ، ومثله : [ الطويل ]

ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلمائِنَا *** . . . {[18445]}

بكسر الحاء ، وقد تقدَّم بيانُ ذلك [ البقرة : 11 ] .

قوله : " إِلَى الله " لا بُدَّ من مضاف ، أي : إلى جزاءِ الله ، أو موقف جزائه .

والجمهور على " الحقِّ " جرًّا ، وقرئ{[18446]} منصوباً على أحد وجهين :

إمَّا القطع ، وأصله أنَّه تابعٌ ، فقطع بإضمار " أمدح " ، كقولهم : الحمدُ لله أهل الحمد .

وإمَّا أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة المتقدمة ، وهو " رُدُّوا إلى الله " وإليه نحا الزمخشريُّ . قال : كقولك : " هذا عبدُ الله الحَقُّ ، لا الباطل " على التَّأكيد ؛ لقوله : " رُدُّوا إلى اللهِ " .

وقال مكِّي : " ويجوزُ نصبهُ على المصدر ، ولم يُقرأ به " ، وكأنَّه لم يطلع على هذه القراءة ، وقوله : " مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ " " مَا " تحتمل الأوجُه الثلاثة .

المعنى : " هُنالِكَ " : في ذلك الوقت ، " نَبْلُو " أي : نختبر ، والمعنى : يفعلُ بها فعل المختبر ، وعلى القراءة الأخرى : أنَّ كلَّ نفس نختبر أعمالها ، في ذلك الوقت .

{ وردوا إِلَى الله } أي : رُدُّوا إلى جزاءِ الله ، قال ابن عبَّاسٍ : " مولاهُمُ الحقّ " أي : الذي يجازيهم بالحق ، وقيل : جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلاهيته ، { مَوْلاَهُمُ الحق } أي أعرضوا عن المولى الباطل ، ورجعوا إلى المولى الحق ، وقد تم تفسير { مولاهم الحق } [ الأنعام : 62 ] في الأنعام . " وضلَّ عَنْهُم " : زال وبطل ، " مَّا كانُوا يفْتَرون " أي : يعبدون ، ويعتقدُون أنهم شفعاء ، فإن قيل : قد قال : { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] ، قيل : المولى هناك هو الناصر ، وههنا بمعنى الملك .


[18439]:تقدم.
[18440]:ينظر: السبعة ص (325)، الحجة 4/271، حجة القراءات ص (331)، إعراب القراءات 1/267، إتحاف فضلاء البشر 2/108-109.
[18441]:ينظر البيتان في البحر المحيط 5/155، القرطبي 8/213، والدر المصون 4/28.
[18442]:ينظر: البحر المحيط 5/155، الدر المصون 4/29.
[18443]:تقدم.
[18444]:ينظر: المحرر الوجيز 3/117، البحر المحيط 5/155، الدر المصون 4/29.
[18445]:تقدم.
[18446]:ينظر: الكشاف 2/344، البحر المحيط 5/155، الدر المصون 4/29.