اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ} (43)

قوله تعالى : { وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } الآية .

اعلم أنَّه تعالى عزَّ وجلَّ إذا أرادَ شيئاً ، هيّأ أسبابه ، ولما دنا فرجُ يوسف عليه الصلاة والسلام رأى ملكُ مصر في النوم سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابسٍ ، ثم خرج عَقِيبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غايةِ الهُزال ، فابتلعتِ العجافُ السِّمان ، ورأى سبعَ سُنبلاتٍ خُضرٍ ، قد انعقد حبُّها ، وسبعاً أخر يابساتٍ ، قد استحصدت ، فالتوتِ اليابساُ على الخضرِ حتَّى غلبْنَ عليها ، فلم يبق من خضرتها شيءٌ ؛ فجمع الكهنة ، والسَّحرة ، والنجامة ، والمُعبِّرين ، وقصَّ عليهم رؤياه ؛ وهو قوله { ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، أخلاط أحلامٍ مُشْتبهَةٌ أهاويلُ .

فصل

قال عليٌّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه : " المعز والبقر إذا دخلت المدينة ، فإن كانت سماناً ، فهي سِني رخاءٍ ، وإن كانت عجافاً ، كانت شداداً ، وإن كانت المدينة مدينة بحرٍ ، وأبَّان سفرٍ ، قدمت سفنٌ على عددها ، وحالها ؛ وإلاَّ كانت فتناً مترادفةً كأنها وجوهُ البقر يشبه بعضها بعضاً ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الفتنِ : " كأنَّها صَياصِيُّ البقَرِ " ؛ لتشابهها ، إلاَّ أن تكون صفراً كلَّها ، فإنَّها أمراضٌ تدخل على النَّاس ، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون ، كان الناسُ ينفرون منها ، أو كان النارُ والدخانُ يخرج من أفواهها ؛ فإنها عسكر ، أو غارة أو عدوّ ، يضرب عليهم ، وينزلُ بساحتهم ، وقد تدلُّ البقرة على الزَّوجة ، والخادم ، والغلَّة والسَّنة : لما يكونُ فهيا من الغلَّةِ ، والولدِ ، والنباتٍ " .

قوله : " سِمَانٍ " ، صفةٌ ل " بَقَراتٍ " ، وهو جمعُ سمينةٍ ، ويجمع " سَمِين " أيضاً عليه يقال : رجالٌ سمانٌ ونساءُ سمان ؛ كما يقال : رجالُ كرامٌ ونساءٌ كرامٌ ، و " السِّمن " : مصدر سَمِنَ يَسْمَنُ فهو سَمِينٌ ، فالاسمُ والمصدر ، جاءا على غير قاسٍ ؛ إذا قياسهما " سَمَن " بفتح الميم فهو سَمِن بسكرها ؛ نحو فَرِحَ فرحاً فهو فرح .

قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : هل من فوقٍ بين إيقاع سمانٍ صفة للتمييز : وهو بقراتٍ دون المُميَّزِ : سَبْعَ بقرات سماناً ؟ قلتُ : إذا أوقعتها صفة ل " بقَراتٍ " ، فقد قصدت إلى أن تميِّز السبع بنوعٍ من البقرات ، وهو السِّمان منهم ، لا بِجِنْسهِنَّ ، ولو وصفت السبع بها ، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقراتِ لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المُميَّز بالجنس بالسمن .

فإن قلت : هلا قيل : " سبع عجافٍ " على الإضافة .

قلت : التمييز موضوع الجنسِ ، والعجافُ وصفٌ لا يقع البيان به وحده ، فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسانٍ ، وخمسة أصحابٍ ، لبيانِ ؛ قلتُ : الفارسُ ، والصاحبُ ، والرَّاكب ، ونحوها صفاتٌ جرت مجرى الأسماءِ ؛ فأخذت حكمها ، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها ، ألا تراك ألا تقول : عندي ثلاثةً ضخامٌ ولا أربعةٌ غلاظٌ .

فإن قلت : ذلك مما يشكل ، وما نحنُ بسبيله لا إشكال فيه ، ألا ترى أنه لم يقل : وبقرات سبع عجاف ؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء عن قولك : سبع عجاف عمَّا تقترحهُ من التمييز بالوصف " انتهى .

وهي أسئلةٌ وأجوبةٌ حسنة ، وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزمُ من وصفِ التَّمييز بشيء وصف المميز به ، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء ؛ بيانه : أنك إذا قلت : " عندي أربعة رجالٍ حسانٍ " بالجر ، كان معناه : أربعةٌ من الرجال الحسانِ ؛ فيلزُم حسنُ الإربعةِ ؛ لأنهم بعض الرجالِ الحسانِ ، وإذا قلت : عندي أربعة رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه : أربعةٌ من الرجال حسان ، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن .

وتحقيق الثاني وجوابه : أنَّ أسماء العدد لا تضافُ إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [ العدد ] ؛ فيقال : عندي ثلاثةٌ قُرشيُّونَ ، ولا يقال ثلاثة قرشيِّين بالإضافة إلا في شعرٍ ، ثم أعترض بثلاثةٍ فرسانٍ ، وأجاب بجريانِ ذلك مجرى الأسماء .

وتحقيقُ الثالث : أنه إنَّما امتنع " ثلاثةُ ضخامٍ " ونحوه ؛ لأنه لا يعلم موصوفه ، بخلاف الآية الكريمة ، فإنَّ الموصوف معلومٌ ، ولذلك لم يصرخ به .

وأجاب عن ذلك : بأنَّ الأصل عدم إضافةِ العددِ إلى الصِّفة كما تقدم ، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع .

وبالجملةِ : ففي هذه العبارةِ قلقٌ ، هذا مُلخَّصُهَا .

ولم يذكر أبو حيَّان نصه ولا اعترض عليه ، بل لخًّص بعض معانيه ، وتركهُ على إشكاله .

فصل في اشتقاق " عجاف "

جمعُ عجفاء : عِجَاف والقياس : عُجْف ؛ نحو : حَمْرَاء ، وحُمْر ؛ حملاً له على سمانٍ ؛ لأنَّه نقيضُه ، ومن دأبهم حملُ النظير على النظيرِ ، والنَّقيضِ على النقيض ، قاله الزمخشريُّ

والعَجَفُ : شدةُ الهزالِ الذي ليس بعده هزال ؛ قال : [ الكامل ]

3106 عَمْرُو الَّذي هَشَمَ الشَّريدَ لقَوْمِهِ *** ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ

قال الليث : العَجَفُ : ذهابُ السِّمن ، والفِعْلُ : عجف يَعجفُ ، والذَّكرُ : أعْجفُ ، والأنثى : عَجْفاء ، والجمع عِجَافٌ في الذكران والإناث .

وليس في كلام العربِ : أفْعَلُ ، وفعلاء ، وجمعها على : فِعَالٍ غَيْر أعْجفُ ، وعِجَاف ، هي شاذة حملوها على لفظ سمانٍ ، وعجافٍ ؛ لأنهما نقيضان ، ومن عادتهم حملُ النَّظيرِ على النظير ، والنَّقيضِ على النَّقيضِ .

وقال الرَّاغب : هو من قولهم : نَصْلٌ أعجفُ ، أي : رقيقٌ .

وعَجَفَتْ نفسي عن الطَّعام وعن فلانٍ : إذا نبت عنهما ، وأعْجفَ الرَّجل أي : صارتْ [ إيله ] عِجَافاً .

" وأخَرَ يَابِساتٍ " ، قوله : " وأخَرَ " نسقٌ على قوله " سَبْعَ " لا على " سُنْبُلاتٍ " ويكون قد حذف اسم العددِ ، من قوله : " وأخَرَ يَابِساتٍ " والتقدير : سَبْعاً أخَرَ ، وإنما حذف ؛ لأنَّ التقسيم في البقرات نقيضُ التَّقسيم في السنبلات .

قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : هل في الآية دليلٌ على أنَّ السنبلات اليابسة كانت كالخُضرِ ؟ قلت : الكلامُ منبيٌّ على انصبابه إلى هذا العددِ في البقراتِ السِّمان والعجافِ ، والسنبلات الخضرِ ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله : " وأخَرَ يَابسَاتٍ " بمعنى : وسبعاً أخر " انتهى .

وإنَّما لم يَجُز عطفُ أخر على التمييز ، وهو " سُنْبُلاتٍ " ، فيكون أخر مجروراً لا منصًوباً ؛ لأنه من حيثُ العطف عليه يكونُ من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مبايناً لسبع فتدافعا ولو كان ترتيبُ الآية الكريمة سبع سُنبلآتٍ خُضرس ويابِساتٍ ، لصحَّ العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذينِ الموضعين أعني : الاخضرار واليبس .

وقد أوضح الزمخشريُّ هذا حيث قال : " فإن قلتَ : هل يجوز أن يعطف قوله " وأخَرَ يَابسَاتٍ " على " سُنْبُلاتٍ خُضرٍ " ، فيكون مجرور المحلِّ ؟ قلت : يؤدِّي إلى تدافع ؛ وهو أنَّ عطفها على " سُنبُلاتٍ خُضرٍ " يقتضي أن يكون داخلاً في حكمها فيكون معها مميز السبع المذكور ، ولفظ " أخَر " يقتضي أن يكون غير السَّبْعِح بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك ميَّزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعودِ على أنَّ بعضهم قيام ، وبعضهم قعودٌ ، فلو قلت : عنده سبعةٌ قيامٌ وآخرين قعودٌ ؛ تدافع ؛ ففسد " .

قوله للرُّؤيَا فيه أربعة أقوالٍ :

أحدهما : أن اللام فيه مزيدة ، فلا تعلق لها بشيء ؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل ؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعاً ؛ كقوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، ولا تزاد فيما عدا ذنبك إلا ضرورة ؛ كقوله : [ الوافر ]

3107 فلمَّا أنْ تَوافَيْنَا قَلِيلاً *** أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا

يريد : أنخنا الكلاكِلَ ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول : إلا في ضرورة .

وبعضهم يقول : الأكثر ألاَّ تزاد ، ويتحرزُ من قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، لأنَّ الأصل : ردفكُم ، فزيدتْ فيه اللامُ ، ولا تقدم ، ولا فرعيَّة ، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التَّضمين ، وسيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى ، وقد تقدم من ذلك طرفٌ جيدٌ .

الثاني : أن يضمَّن تعبرون معنى ما يتعدَّى باللام ، تقديره أي : إن كنتم تنتدبون لعبارةِ الرؤيا .

الثالث : أن يكون " للرُّؤيا " خبرُ " كنتم " ؛ كما تقول : " كان فلانٌ لهذا الأمرِ " ، أي : إذا استقلّ به متمكِّناً منه ، وعلى هذا فيكون في " تَعْبرُونَ " وجهان :

أحدهما : أنًَّهُ خبر ثانٍ ل " كُنْتُمْ " .

الثاني : أنه حالٌ من الضمير المُرتفعِ بالجار ؛ لوقوعه خبراً .

الرابع : أن تتعلق اللام بمحذوفٍ على أنَّها للبيان ؛ كقوله تعالى { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ] تقديره : أعني فيه ، وكذلك هذا ، تقديره : أعني للرُّؤيا ، وعلى هذا يكون مفعولُ " تَعْبُرُونَ " محذوفاً تقديره : تعبرونها .

وقرأ أبو جعفر : الرُّيَّا [ وبابها الرؤيا ] بالإدغام ؛ وذلك أنَّه قلب الهمزة واواً ؛ لسكونها بعد ضمةٍ ، فاجتمعت " واوٌ " ، و " ياءٌ " وسبقت إحداهما بالسكون ؛ فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياءُِ في الياءِ .

وهذه القراءة عندهم ضعيفةٌ ؛ لأن البدل غير لازمٍ ، فكأنَّه لم يوجد واوٌ ؛ نظراً إلى الهزة .

فصل في معنى " تعبرون "

يقال : عَبَرْتُ الرُّؤيَا أعبرها عبارة ، وعبَرةً بالتخفيف ، قال الزمخشريُّ : " وهو الذي اعتمدهُ الأثباتُ ، ورأيتهم يُنْكِرُونَ " عَبَّرتُ " بالتشديد ، والتَّعبير والمُعبِّر " قال : وقد عثرتُ على بيتٍ أشده المبرِّد في كتاب الكاملِ لبعضِ الأعرابِ : [ السريع ]

3108 رَأيتُ رُؤيَا ثُمَّ عبَّرتُهَا *** وكُنْتُ للأحْلامِ عَبَّارَا

قال وحقيقة تعبير الرؤيا : ذكرُ عاقبتها ، وآخر أمرها ؛ كما تقول : عبرتُ النَّهر إذا قطتعهُ حتَّى تبلغ آخرَ عرضه .

قال الأزهريُّ : " مأخوذٌ من العُبْرِ ، وهو جانبُ النَّهر ، ومعنى عبرتُ النَّهرَ والطريق : قطعتهُ إلى الجانب الآخر ، فقيل لعابرِ الرؤيا : عابرٌ ؛ لأنَّه يتأمل جانبي الرُّؤيا ، ويتفكرُ في أطرافها وينتقل من أحد الطَّرفين إلى الآخر " .

قال بعضُ أهل اللغة : العينُ ، والباءُ ، والراءُ ، تضعها العرب : لجوار الشيء ، ومضيفه ، وقلَّة تمكنه ، ولبثه ، وهو فعل ، يقال : عبر الرؤيا : أخرجها من حال النَّوم إلى حال اليقظةِ ، كعبور البحر من جانب إلى جانبٍ .

وناقة عبراء سفار ، أي : يقطعُ بها الطريق ويعبرُ .

والشِّعرى : العبُورُ ؛ لأنها عبرت المجرَّة .

والاعتبارُ بالشيء : هو التَّمثيلُ بينه وبين حاكيه .

والعبرةُ : الدَّمعةٌ ؛ لعبورها العين ، وخروجها من الجفنِ .

والعَنْبَرُ : منهح لأنَّ نونه زائدةٌ ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته .

والعَنْبَرُ أيضاً سمكةٌ في البحرِ ، والعنبرُ : اسمُ قبيلة ، والعنبرُ : شدَّة الشتاء .

قال بعضهم : ثلاثةُ أشياء لا يعرف معدنها :

أحدها : العَنْبَرُ يجيءُ ظفاؤه على وجه الماءِ .

وثانيها : المومياء بأرض فارس ، ومعناه : مُومٌ ، أي : شمعُ الماء لا يعرف من أين يجيءُ ، ولا من أين ينبع ، يُعْمَلُ له حوضٌ في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء ، وينبع منه تبقى المومياء ؛ فتؤخذ إلى خزانة السُّلطان .

وثالثها : الكهلُ : وهو نوعٌ من الخَرزِ أصفر يطفو على وجهِ الماءِ في بحر المغرب وبحر طبرستان ، ولا يعرف معدنه .