اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

قوله تعالى : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ } ، فاعلُ " ظنَّ " : يجوزُ أن يكون يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي ، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين ؛ كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] و { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ } [ الحاقة : 20 ] قال الزمخشريُّ . يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه ، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف ؛ إلاَّ ان يكون تأويله بطريق الاجتهاد ، لأه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ ، كان يَقِيناً ؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عليه الصلاة والسلام .

وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريق الوحْيِ .

وذهب قتادة : إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، فإنه قال : " الظنُّ هو على بابه ؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ " .

قوله : " مِنْهُمَا " ، يجوزُ أن يكون صفةً ل " نَاجٍ " ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول .

قال أبو البقاءِ : ولا يكونُ متعلقاً ب " نَاجِ " لأنَّه ليس المعنى عليه " قال شهاب الدين : لو تعلق ب " نَاجِ " لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما ، أي : انفلت منهما ، والمعنى : أنَّ أحدهما هو النَّاجي ، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ .

والضميرُ في " فَأنْسَاهُ " ، يعودُ على الشرابيِّ ، وقيل : على يوسف ؛ وهو ضعيفٌ .

فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه

قال يوسف عليه الصلاة والسلام للناجي من الرجلين : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } ، إي : عند الملك ، أي : اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته ، لما أخرجوه ، وباعوه ، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة ؛ التي لأجلها حُبِسَ .

ثم قال تعالى : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } قيل : أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك ، تقديره : فأنساه الشيطان ذكره لربه .

ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول ، فقال : لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله ، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ .

وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ ، فلما ترك ذكر اللهِ ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك ، عوقب .

وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف ، مع قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] ، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان ، وليس له على الأنبياء سلطان ؟ .

وأجيب عن هذا بأن النيسان لا عصمة للأنبياء عنه ، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى ، فيما يلقَّونه ؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه ، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه ، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان ؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم ، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم ، قال عليه السلام : " نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته " وقال : " إنَّما أنا بشرٌ ، أنْسَى كما تَنْسَوْن " .

وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما وعليه الأكثرون : " أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه ؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره ، واستعان بمخلوقٍ ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ " .

" فَلبِثَ " : مكث " في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ " قال صلى الله عليه وسلم : " يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ ؛ لوْ لَمْ يقُلْ : " اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ " ؛ ما لبثَ فِي السِّجن " ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف .

واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلمن جائزةٌ في الشريعة ، لا إنكار عليه .

وإذا كان كذلك ، فلم صار يوسف عليه الصلاة والسلام مُؤاخذاً بهذا القدر ؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا ؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [ أولى ] ؟ .

فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة ، وما عابهُ ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عليه الصلاة والسلام كان مُبَرًّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ .

فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه

قال الزجاج : " اشتقاقُ الضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطْعْتُ " .

قال النَّواوي : " والبِضْعُ بكسر الباء ، وقد تفتح : ومعناه القطعةُ من العدد " .

قال الفراء : لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ ، قال : وهكذا رأيتُ العرب يقولون ، وما رأيتهم يقولون : بضعٌ ومائةٌ ، قال : وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة ؛ والقرآنُ يردُّ عليه .

ويقال : بضعُ نسوة ، وبضعةُ رجالٍ .

روى الشعبيُّ رضي الله عنه " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهُ : كم البِضْعُ ؟ قال : مَا دُونَ العَشرة " .

وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما : " مَا دُونَ العشرة " .

وقال مجاهدٌ رضي الله عنه : مابين الثَّلاث إلى السَّبع .

وقيل إلى الخمسِ .

وقال قتادةُ رضي الله عنه : مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ .

وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته ، اثنتا عشرة سنة .

قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : " لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه ، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ " .

وقيل : البِضْعُك فوق الخمسةِ ودُون العشرة .

وقد تقدم عند قوله { بِضَاعَةً } [ يوسف : 19 ] ، والبَعْضُ قد تقدَّم أه من هذا المعنى ، عند ذكر البعوضةِ .

وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ :

أحدهما : قال ابنُ جريجٍ ، وقتادة ، ووهبُ بنُ منبِّه : أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ .

وقال ابن عباسك اثنتَيْ عَشْرة سنة .

وقال الضحاكُ : أرْبع عشرة سنة .