" فلَّما سَمِعَتْ " راعيلُ " بِمكْرهِنَّ " ؛ بقولهنَّ ، وسمى قولهنَّ مكراً ؛ لوجوه :
الأول : أنَّ النسوة ، إنما قلن ذلك ؛ مكراً بها ؛ لتُريهنَّ يوسف ، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله ؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك ، عرضتْ يوسف عليهنَّ ؛ ليتمهد عذرها عندهن .
الثاني : أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ ، فأفشين ذلك السرَّ ؛ فلذلك سمَّاه مكراً .
الثالث : أنهن وقعن في الغيبة ، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ ، فأشبهت المكر .
{ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } : قال المفسرون : اتخذت مأدبة ، ودعت جماعة من أكابرهن ، " وأعْتدَتْ " أي : أعدَّت " لهُنَّ مُتَّئاً " .
قرأ العامة : " مُتَّكئاً " بضم الميم ، وتشديد التاءِ ، وفتح الكاف والهمز ، وهو مفعولٌ به ، ب " أعْتَدتْ " أي : هيَّأتْ ، وأحضَرتْ .
والمُتَّكأ : الشيءُ الذي يتكأ عليه ، من وسادةٍ ونحوها ، والمُتَّكأ : مكان الاتِّكاءِ ، وقيل : طعام يُجزُّ جزًّا .
قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد رضي الله عنهم : " مُتَّكَئاً ، أي : طعاماً ، سمَّاه " مُتَّكَئاً " ؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا ، يتكئُون على الوسائدِ ، فسمى الطعامُ متكئاً ؛ على الاستعارة " .
وقيل : " مُتَّكئاً " ، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين ؛ لأنه إذا كان كذلك ، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع .
وقال القتبي : يقالُ : اتكأنا عند فلانٍ ، أي أكلنا .
وقال الزمخشري : من قولك : اتكأنا عند فلانٍ ، طعمنا على سبيل الكناية ؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها ؛ قال جميلٌ : [ الخفيف ]
3083 فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا *** وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ
فقوله : " وشَرِبْنَا " مرشحٌ لمعنى " اتَّكأنَا " : أكلنا .
وقرأ أبو جعفر ، والزهريُّ رحمهما الله : " مُتَّكأً " مشددة التاء ، دون همزٍ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون أصله : متكأ " كقراءة العامَّة ، وإنما خفف همزُهُ ؛ كقولهم : " تَوضَّيْتُ " في توضَّأتُ ، فصار بوزن " مُتَّقى " .
والثاني : أن يكون " مُفْتَعَلاً " من أوكيتُ القِربَة ، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ .
فالمعنى : أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه ؛ إمَّا بالاتِّكاءِ ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين ، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ .
وقرأ الحسن ، وابن هرمز : " مُتَّكاءً " بالتشديد والمد ، وهي كقراءةِ العامة ، إلاَّ أنه أشبع الفتحة ؛ فتولد منها الألفُ ؛ كقوله : [ الوافر ]
3084 . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
3085 يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3086 أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ *** الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
بمعنى : بِمُنتزحٍ ، وينبع ، والعقرب الشَّائلة .
وقرأ ابن عباسٍ ، وابن عمر ، ومجاهدٌن وقتادة ، والضحاك ، الجحدري ، وأبان بن تغلب رحمهم الله : " مُتْكاً " بضمِّ الميم ، وسكون التاء ، وتنوين الكافِ ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ ، وعبدالله ، ومعاذ ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم .
والمُتْكُ : بالضم والفتح : الأترجُ ، ويقال : الأترنج ، لغتان ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
3087 نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا *** وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا
قيل : هو من متك ، بمعنى بَتَكَ الشيء ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء ، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه .
وقيل : بالضمِّ : العسلُ الخالصُ عند الخليل ، والأترجُّ عند الأصمعيِّ ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ؛ أعني : ضمَّ الميم ، وفتحها ، وكسرها ، قال : وهو الشرابُ الخالصُ .
وقال المفضلُ : هو بالضم : المائدة ، أو الخمر ، في لغة كندةن وقال ابن عباس : هو الأترجُّ بالحبشة ، وقال الضحاك : الزَّمَاوْرَد ، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين .
وقوله : " لهُنَّ مُتَّكَئاً " إما أن يريد : كُلَّ واحدةٍ متكئاً ؛ ويدلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإما أن يريد : الجِنْسَ .
والسِّكينُ : تذكرُ وتؤنث ، قاله الكسائي : والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنثه ، والسكِّينةُ : فعلية من السكون ، قال الراغب : سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ ، فقوله : " وأتتْ " ، أي : أعطتْ { كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، إما لأجل الفواكه ، أو لأجل قطع اللحم ، ثم أمرت يوسف عليه الصلاة والسلام بأن يخرج عليهن ، وأنه عليه الصلاة والسلام ما قدر على مخالفتها ؛ خوفاً منها .
{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } ، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف ، ومعنى " أكْبَرنَهُ " أعظمنهُ ، ودهشن من حسنه ، وقيل : هي هاءُ السكتِ ؛ قال الزمخشري .
وقيل : " أكْبَرْنَ " بمعنى : حِضْنَ ، والهاءُ للسَّكتِ ؛ يقال : أكبرت المرأةُ : إذا حاضتْ ، وحقيقته : دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رحمه الله أخذ من هذا التفسير قوله : [ الطويل ]
3089 خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ *** فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق
وكون الهاء للسَّكتِ ، يردُّه ضم الهاءِ ، ولو كانت للسكتِ ، لسكنتن وقد يقال : إنه أجراها مجرى هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها .
قال أبو حيَّان رحمه الله : " وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل ، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت ، إذا لو كانت هاء السَّكت ، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء " .
قال شهابُ الدِّين : " وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير ؛ إجراءً لها مجراها " ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً : [ البسيط ]
3090 واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ *** قإنه رُوي بضم الهاء في " قَلْبَاهُ " ، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون " أكْبَرْنَ " بمعنى حضن ، ولا تكون الهاء للسكت ؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله ، أي : أكبرن الإكبار ، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ ، قوله [ البسيط ]
3091 يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك *** يَأتِي النِّساءً إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا
روى أبو سعيد الخدريُّ رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ " .
وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة : " كان يوسفُ عليه الصلاة والسلام إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُوء وجْههِ على الجُدرانِ ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا " .
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الإسراء : " فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ " .
قال العلماءُ رضي الله عنهم : معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه .
قال أبو العالية : " هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ ، وحيْرتِهنَّ ؛ قطَّعن أيْديهُنَّ ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأرتجَ ، ولم يجدن الألَم ؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف " .
وقال مجاهدٌ : ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِن وذلك كنايةٌ عن الجرحِ ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ ، كما قال قتادة .
وقيل : إنهن لما دهشن ، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها ؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكينة بكفِّها ؛ فكان تحصل تلك الجراحةُ بكفها .
قال وهبٌ : ما تت جماعةٌ منهن .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر ، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه ؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة ، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع ، والإنابة ، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة ، والسكينة ، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية ، بذلك الجمال العظيم ، فَتعجبن من تلك الحالةِ ، فلا جرم أكبرنه ، وعظمنهُ ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن ، وهذا عندي أولى .
فإن قيل : كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله : " فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه " ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق ، وإفراط المحبَّة ؟ .
قلت : تقرر أن المحبُوب متبوع ، فكأنَّها قالت لهُنَّ : هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة . فحسنه يوجب الحب الشَّديد ، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه ، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ ، وهذا التأويل أحسنُ ، ويؤيده قولهم : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } .
قوله : " حَاشَا للهِ " عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية ، فإن جرَّت ، فهي حرفٌ ، وإن نصبت ، فهي فعلٌ ، هي من أدوات الاستثناء ، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها ، وعرفها غيره ، وحكوا عن العرب : " غَفَرَ اللهُ لِي ، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي ، حَاشَا الشَّيطانَ ، وابن أبي الأصْبَعِ " بالنصب ، وأنشدوا : [ الوافر ]
3092 حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ *** بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب " رَهْطَ " ، و " حَشَا " لغة في " حَاشَا " كما سيأتي .
قال الزمخشري : " حَاشَى " كلمةٌ تفيد التنزيه ، في باب الاستثناء ، تقول : أساء القوم حَاشَى زَيدٍ ، وقال : [ الكامل ]
3093 حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ *** ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وهي حرفٌ من حروف الجرِّ ؛ فوضعت موضع التنزيه ، والبراءةٍ ، فمعنى حاشا للهِ : براءة الله ، وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعودٍ .
قال أبو حيَّان : وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء ، غير معروفٍ عند النحويين ، لا فرق في قولك : قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله : أساء القوم حاشا زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأما ما أنشده من قوله : [ الكامل ]
حَاشَا إبِي ثَوْبانَ *** البيت .
فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة ، وأكثر النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين ، وهما : [ الكامل ]
3094 حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا *** ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ
عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ *** ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال شهابُ الدِّين : " قوله : " إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة " ولم ينكروه ؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنَّ غالب : فَنِّهِمْ " صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ " لَيْسَ " ، و " لا يكُونُ " و " غَيْر " ، لم يذكروا معانيها . إذ مرادهم مساواتها ل " إلاَّ " في الإخراج ، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات " .
وزعم المبردُ ، وغيره كابن عطيَّة : أنَّها تتعينُ فعليتها ، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمةن قالوا : لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً ؛ كقوله : [ الوافر ]
3095 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ
3096 فأصْبَحنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف ، أي : حَاشَى يوسف ، و " للهِ " جارٌّ ومجرورٌ ، متعلق بالفعل قبله ، واللام تفيد العلَّة ، أي : حَاشَا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به ؛ لطاعة الله ، ولمكانه منه ، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به ، أي : جَانَبَ المعصية ؟ لأجل الله .
وأجاب النَّاسُ عن ذلك : بأنَّ " حَاشَا " في الآية الكريمة ، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله ؛ كأنه قيل : تنزيهاً للهِ ، وبراءة له ، وإنما لم ينون ؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه ، وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : " مِنْ عَنْ يَمِينه " فجعلوا " عَنْ " اسماً ، ولم يعربوه ، وقالوا : " مِن عليه " فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا " عَنْ " على بنائه ، وقلبوا ألف " عَلى مع المضمر ؛ مراعاة لأصلها ، كذا أجاب الزمخشريُّ ، وتابعه أبو حيَّان ، ولم يَعزُ لهُ الجواب ، وفيه نظرٌ ؛ أما قوله : " مراعاة لأصله " فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة ، إلى الاسمية ، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ ، ولهم ذلك مذهبان : الإعرابُ ، الحكايةٌ . أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسماً ، فهذا غير معروف .
وأما استشهاده ب " عَنْ " ، و " عَلَى " فلا يفيده ذلك ؛ لأنَّ " عَنْ " حال كونها اسماً بنيت ، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين ، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها ، وأما قلب ألف " عَلَى " مع الضمير ، فلا دلالة فيه ؛ لأنَّا عهدنا ذلك ، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي ، والأولى أن يقال : الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة ، وأنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال : " حَاشاً للهِ " منصوباً منوناً ، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً ؛ كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف ، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ ، تقدم منها جلمةٌ ، وسيأتي مثلها ، إن شاء الله تعالى .
وقيل : في الجواب عن ذلك : بل بُنِيَتْ " حَاشَا " في حال اسميتها ؛ لشبهها ب " حَاشَا " في ح الِ حرفيَّتها ، لفظاً ومعنى ، كما بُنيَتْ " عَنْ " ، و " عَلَى " لما ذكرناه .
وقال بعضهم : إنَّ اللام زائدة ، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر .
واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها ، بمجيء المضارع منها ؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ : [ البسيط ]
3097 وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ *** وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ
قالوا : تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل ، دليلٌ على فعليتها ، لا محالة .
وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف ؛ كما قالوا : سوَّفت بزيدٍ ، ولو كيت له ، أي : قلت له : سوف أفعل ، وقلت له : لو كان ، ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتملٌ .
وممن رجح جانب الفعلية ، أبو علي الفارسي رحمه الله قال : " لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله " حَاشَى للهِ " من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ ، أو يكون فعلاً على فاعل ، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار ؛ لأنه لا يدخل على مثله ؛ ولأن الحروف لا يحذف منها ، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ ، فثبت أنه فاعلٌ من " الحَشَا " الذي يراد به الناحية .
والمعنى : أنه صار في حشا ، أي : في ناحية ، وفاعل " حَاشَى " يوسف ، والتقدير : بعد من هذا الأمر ؛ لله ، أي : لخوفهِ " .
فقوله : " حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله " مُسلَّمٌ ، ولكن ليس هو هنا حرفُ جرِّ ، كما تقدم تقريره .
وقوله : " لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً " ، ممنوعٌ ، ويدل له قولهم : " مُذْ " في " مُنْذُ " إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيف ، قالوا : ويدلَّ على أنَّ أصلها : " منذ " بالنون ، تصغيرها على " مُنَيْذ " وهذا مقررٌ في بابه .
وقرأ أبو عمرو وحده : " حَاشَا " بألفين الفٌ بعد الحاءِ ، وألفٌ بعد الشين ، في كلمتي هذه السورة وصلاً ، ويحذفها وقفاً ؛ اتباعاً للرسم ، كما سيأتي ، والباقون بحذف الألف الأخيرة ؛ وصلاً ، ووقفاً .
فأما قراءة أب عمرو ، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها ، وأما الباقون : فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم ، ولما طال اللفظُ ، حسن تخفيفه بالحذف ، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها ، كالفارسيّ .
قال الفارسي : " وأما حذفُ الألف ، فعلى : لمْ يَكُ ، وَلا أدْرِ ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة ، وقوله : [ الرجز ]
3098 وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني *** في شعر رُؤبة ، يريد : لَمْ يكن ، ولا أدْرِي ، ولو ترى ، ووصَّاني " . وقال أبو عبيدة : رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ مصحف عثمان رضي الله عنه " حَاشَ لله " بغير ألف ، والآخرى مثلها .
وحكى الكسائيُّ : أنه رآها في مصحف عبدالله ، كذلك . قالوا : فعلى ما قال أبُوا عبيد ، والكسائي : تُرجَّح هذه القراءةُ ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ .
ونقل الفراء : أن الإتمام لغةُ بعض العرب ، والحذف لغة أهل الحجاز ، قال : ومِنَ العرب من يقول " حَاشَى زَيْداً " أراد " حَشَى لزيدٍ " ، فقد نقل الفراء : أنَّ اللغات الثلاثة مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم .
وقرأ الأعمش ، في طائفة " حِشَى للهِ " بحذف الألفين ، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب ؛ وعليه قوله : [ الوافر ]
3099 حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ أبي ، وعبد الله : " حَاشَى اللهِ " بجر الجلالةِ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن تكون اسماً مضافاً للجلالة ، نحو سبحان الله ، وهو اختيارُ الزمخشريِّ .
والثاني : أنه حرف استنثاءٍ ، جر به ما بعده ؛ وإليه ذهب الفارسيُّ .
وفي جعله : " حَاشَا " حرف جرِّ مُراداً به الاستثناء ، نظرٌ ، إذْ لم يتقدم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسم المعظَّم ، بخلاف : قام القومُ حَاشَا زيدٍ ، واعلم أنَّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف ، جعلوه من المتردِّد بين الفعلية ، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته ، وجعله في ذلك ك " خَلاَ " و " عَدَ " ، وهذا عند من أثبت حرفيته ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية ، والفعلية ، والحرفية ، كما فعلوا ذلك في " عَلَى " فقالوا : يتكون حرف جرٍّ في " عَلْكَ " ، واسماً في قوله : " مِنْ عَليْه " ، وفعلاً في قوله : [ الطويل ]
3100 عَلاَ زَيْدُنَا يوْمَ النَّقَا . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإن كان فيه نظرٌ ، تلخيصه : أنَّ " عَلاَ " حال كونها فعلاً غيرُ " عَلَى " ، حال كونها غير فعلٍ ؛ بدليل أنَّ الألف الفعلية منقلبةٌ عن واوٍ ، ويدخلها التصريفُ ، والاشتقاقُ دون ذينك .
وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا ، فيقول : لو كان " حَاشَا " في قراءة العامَّة اسماً ، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية ، والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه ، دلَّ على عدم اسميتها .
وقرأ الحسن : " حَاشْ " بسكون الشين ، وصلاً ووقفاً ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : " حَاشَ الإله " قال محذوفاً من " حَاشَا " يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرةِ ، ويدلُّ لى ذلك ، ما صرَّح به صاحبُ اللوامح ، فإنه قال : " بحذف الألف " ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ ، يجر به ما بعده . فأما الإله : فإنه فكَّه عن الإدغام ، وهو مصدرٌ أقيم مقام المفعول ، ومعناه : المبعودُ ، وحذف الألف من " حَاشَ " ؛ للتخفيف .
قال أبو حيَّان : " وهذا الذي قاله ابن عطية ، وصاحب اللوامح : من أنَّ الألف في " حَاشَا " في قراءة الحسنِ ، محذوفةٌ ، لا يتعيَّن إلاَّ أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين ، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء ، فاحتمل أن تكون الألف حذفت ؛ لالتقاء الساكنين ، والأصل : حاشا الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة ، وحرَّك اللام بحركتها ، ولم يعتدَّ بهذا التحريك ؛ لأنه عارضٌ ، كما تحذف في نحو " يخشى الإله " ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف " .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين ، ويستأنس له ، بأنه سكَّن الشين في الراوية الآخرى عنه ، فلما جيء بشيءٍ محتمل ، ينبغي أن يحمل على ما خرج به ، وقول صاحب اللّوامح : وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ بجرُّ به ما بعده ، لا يصحُّ ؛ لما تقدم من أنَّه لو كان حرف جرٍّ ، لكان مُستثنى به ، ولم يتقدم ما يُسْتثنى منه بمجروره .
واعلم أنَّ اللام الداخلة على الجلالة ، متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، كهي في " سَقْياً لَكَ " ، و " رَعْياً لزيد " عند الجمهور ، وأما عند المبرد ، والفارسي : فإنها متعلقةٌ بنفس " حَاشَى " ؛ لأنها فعلٌ صريحٌ ، وقد تقدَّم أن بعضهم يرى زيادتها .
قال المفسِّرون : معنى قوله : " حَاشَى لله " أي : تنزَّه الله تعالى عن العجز ، حيث قدر على خلق جميلٍ مثله ، وقيلك معاذ الله أن يكون هذا بشراً .
قوله : " مَا هَذا بشراً " العامة على إعمال " ما " على اللغة الجازيَّة وهي اللغة الفُصْحَى ، ولغة تميم الإهمالُ ، وقد تقدَّم تخفيف هذا ، أول البقرة [ البقرة : 8 ] ، وما أنشده عليه من قوله : [ الكامل ]
3101 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْودًّةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونقل ابن عطيَّة : أنه لم يقرأ أحدٌ إلاَّ بلغة الحجاز ، وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميمٍ ، قرأ " بشرٌ " بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعودٍ .
فادعاءُ ابن عطية ، أنه لم يقرأ به ، غير مسلم . وقرأ العامة : " بَشَرا " بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ ، ونصب ينزع حرفِ الخفض ، أيّ : بِبشَرٍ .
وقرأ الحسن ، وأبو الحويرث الحنفي : " بِشرَى " بكسر الباء ، وهي باءُ جرَّ ، دخلت على " شِرَى " فهما كلمتان ، جارٌّ ومجرورٌ ، وفيها تأويلات :
أحدهما : ما هذا بمُشْتَرَى ، فوضع المصدر موضع المفعول به ، ك " ضَرَبَ الأميرِ " .
الثاني : ما هذا بمباع ، فهو أيضاً مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به ، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ .
الثالث : ما هذا بثمنٍ ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء ، وروى عبدُ الوارث ، عن أبي عمرو كقراءة الحسن ، وأبي الحويرث ، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا " مَلِك " بكسر اللام ، واحد الملوكِ ، نفو عنه ذُلَّ المماليك ، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ ، وذكر ابنُ عطية : كسْرَ اللام عن الحسنِ ، وأبي الحُوَيْرث .
وقال أبو البقاءِ : وعلى هذا قُرىء " مَلِك " بكسر اللام ، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً ؛ للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة ؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلْ عليها ، فإنه قال : وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي : ما هو بعبدٍ مملوكِ لئيمٍ ، " إنْ هَذَا إلاَّ ملكٌ كَريمٌ " ، تقول : " هذا بِشرَى " ، أي : حاصلٌ بِشرَى ، بمعنى مُشْترَى ، وتقولك هذا لك بِشرَى ، أو بِكِرَى " والقراءةُ هي الأولى ؛ لموافقتها المصحف ، ومطابقة " بَشَر " ل " مَلِك " .
قوله " لموافقتها المصحف " يعني أنَّ الرَّسم : " بَشَراً " بالألفِ ، لا بالياءِ ، ولو كان المعنى على " بُشْرَى " لرسم بالياءِ ، وقوله : " ومُطابَقة بشراً الملك " ، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ .
في معنى قوله : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } وجهان :
أشهرهما : أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له ، قالوا : لأنه تعالى ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان ، ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } [ الصافات : 65 ] وذلك لما تقرَّر في الطبائع ، أنَّ أقبح الأشياءِ ، هو الشيطانُ ، فكذا هاهنا ، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ ، هو الملكُ ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك ، وقلن : " إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ " على الله من الملائكة .
والوجه الثاني : قال ابنُ الخطيب : وهو الأقربُ عندي ، أن المشهور عند الجمهور ، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ ، وحوادث الغضب ، ونوازع الوهم ، والخيال ، فطعامهم توحيد الله ، وشرابهم الثناءُ على الله ، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف ، لم يلتفتْ إليهن ، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ ، وهَيْبة الرسالةِ ، وسيما الطَّهارة ، قلن : ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة ، ولا شيئاً من البشرية ، ولا صفة من الإنسانيةِ ، ودخل في الملائكة ، فإن قالوا : فإن كان المرادُ ما ذكرتم ، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ ؟ فالجواب قد سبق .
فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر
احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه ، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية ، وإدخاله في الملكيِّة ، سبباً لتعظيم شأنه ، وإعلاء مرتبتة ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر .
ثم نقول : لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر ، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن ، والأول باطلٌ لوجهين :
الأول : أنهن وصفنه بكونه كريماً ؛ بحسب الأخلاق الباطنة ، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة .
والثاني : أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة ، وأما كونه بعيداً عن الشهوة ، والغضب ، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية ، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله ، مستغرق القلبِ والرُّوحِ ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ ، وبين الملائكةِ .
إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسانِ بالملكِ ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة ، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة ؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية ، إنَّما وقع في الخُلق الباطن ، لا في الصُّورة الظاهرةِ ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل .