أحدهما : وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً ، لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً ، فيطعن فيه بعض أعدائه ، فيقول : أنا أعلم أنهم [ سيطعنون عليَّ فيما فعلت ، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد ]{[1772]} ، فإذا ذكروه مَرَّة ، فسيذكرونه بعد ذلك مرات ، فصحّ على هذا التأويل أن يقال : سيقول السُّفهاء من الناس ذلك ، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك [ نزلت الآية ]{[1773]} .
[ قال القرطبي : " سيقول " بمعنى : قال ؛ جعل المستقبل موضع الماضي ، دلالة على استدامة ذلك{[1774]} ] وأنهم يستمرون على ذلك القول .
و " السفهاء " جمع ، واحده سفيه ، وهو الخفيف العقل ، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد تقدم .
والنساء سفائه . وقال المؤرج : السَّفيه : البهات الكاذب المتعمد خلاف ما يعلم .
القول الثاني : أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد .
أحدها : أنه - عليه الصلاة والسلام - إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه ، كان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .
وثانيها : أنه - تعالى - إذا أخبر عن ذلك أولاً ، ثم سمعه منهم ، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما إذا سمعه فيهم أولاً .
وثالثها : أن الله - تعالى - إذا أسمعه ذلك أولاً ، ثم ذكر جوابه معه ، فحين يسمعه النبي - عليه الصلاة والسلام - منهم يكون الجواب حاضراً ، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً .
تقدم الكلام على السَّفه في قوله : { كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه ، فيعدل عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره ، يوصف بالخفّة والسفه ، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا ، [ فإذا كان العادل عن الرأي واضحاً في أمر دنياه يعدّ سفيهاً ، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه ، فهذا اللفظ{[1775]} ] يمكن حمله على اليهود ، وعلى المشركين ، وعلى المنافقين وعلى جملتهم ، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين .
قال ابن عباس ومجاهد : هم اليهود{[1776]} ، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القِبْلة ، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية ، فلما تحول عن ترك القبلة اغْتَمُّوا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة ، فنزلت هذه الآية .
قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم رضي الله عنهم : إنهم مشركو العرب{[1777]} ، [ وذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان متوجهاً إلى " بيت المقدس " حين كان ب " بمكة " والمشركون ]{[1778]} كانوا يتأذون منه بسبب ذلك ، فلما جاء إلى " المدينة " وتحول إلى الكعبة قالوا : رجع إلى موافقتنا ، ولو ثبت عليه لكان أولى به .
وقال السدي : هم المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها ، فكان هذا التحويل مجرد العبث ، والعمل بالرأي والشهوة ، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين ، لأن هذا الاسم مختص بهم ، قال الله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] .
وقيل : يدخل فيه الكل ؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم ، ودخل فيه الألف واللام ، وقد بَيّنا صلاحيته لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي ، والنص أيضاً يدلّ عليه ، وهو قوله :
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
[ فإن قيل : المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة ، وإن كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً .
قلنا : هذا القدر لا ينافي العموم ، ولا يقتضي تخصيصه ؛ بل الأقرب أن يكون الكل قد قالوا ذلك ؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً{[1779]} ] .
قوله تعالى : { مِنَ النَّاسِ } في محلّ نصب على الحال من " السفهاء " والعامل فيها " سيقول " ، وهي حال مبينة ، فإن السَّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان ، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازاً ، فرفع المجاز بقوله : " مِنَ النَّاسِ " ذكره ابن عطية وغيره .
قوله : { ما وَلاّهُمْ } " ما " مبتدأ ، وهي استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب ، والجملة بعدها خبر عنها و { عن قبلتهم } متعلّق ب " ولاّهم " ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : " عليها " أي : على توجهها ، أو اعتقادها ، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله : " عليها " مجاز ، نزَّل مواظبتهم على المُحَافظة عليها منزلة من اسْتَعْلَى على الشيء ، والله أعلم .
وَلاَّه عنه : صرفه عنه ، وولى إليه بخلاف ولّى عنه ، ومنه قوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] وفي هذا التولّي قولان :
المشهور عند المفسرين : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة عاب الكفار المسلمين ، فقالوا : { مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ } فالضَّمير في قوله : { مَا وَلاَّهُمْ } للرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي " بيت المقدس " .
واختلفوا في تاريخ تحويل القِبْلَة بعد ذهابه إلى " المدينة " فقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر{[1780]} وقال معاذ : بعد ثلاثة عشر شهراً{[1781]} ، وقال قتادة : بعد ستة عشر شهراً{[1782]} .
وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً{[1783]} ، [ وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال .
وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً{[1784]} ] من مقدمه .
وقال الواقدي : صرفت القِبْلَة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً .
القول الثاني : قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبرُ بأن الله - تعالى - حوّلها إلى الكعبة وجب القول به ، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله : { كَانُوا عَلَيْهَا } ، أي : السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قِبْلَة اليهود والنصارى ، فقبلة اليهود إلى العرب ؛ لأن النداء لموسى عليه الصلاة والسلام جاء فيه وهو قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } [ القصص : 44 ] ، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب ، وذلك شبه الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة ، وهو وقت هُمُود الناس الذي هو الموت الأصغر ، واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى ، والنَّصَارى إلى المشرق ؛ لأن جبريل - عليه الصلاة والسلام - إنما ذهب إلى مريم في جانب المَشْرق ، لقوله تعالى : { إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] ؛ لأن المشرق مكان إشراق الأنوار ، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها ، فهو مشتبه بحياة العالم فاستقبلوه ؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم ، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجّهوا إلى شيء من الجهات ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى الكعبة استنكروا ذلك ، فقالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين ، فقال تبارك وتعالى رداً عليهم : { قُلْ : لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ } .
قال ابن الخطيب{[1785]} : " ولولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم " .
القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان ، وهي من المقابلة ، وإنما سميت القبلة قبلةً ؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله .
وقال قطرب : يقولون في كلامهم : ليس لفلان قبلة أي : ليس له جهة يأوي إليها ، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال .
وقال غيره : إذ تقابل الرجلان ، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر . [ قال القرطبي : وجمع القبلة في التكسير قبل ، وفي التسليم قبلات ، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة ، وتقول : قبلات ، ويجوز أن تحذف الكسرة ، وتسكن الباء ]{[1786]} .
فصل في بعض شبه اليهود والنصارى
قال ابن الخطيب : هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام ، فقالوا : النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وكلاهما لا يليق بالحكيم ، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام{[1787]} [ وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام ، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً وإن كان مقيداً بقيد اللادوام ، فهاهنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له ، وإن كان مقيداً بقيد الدوام ، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على ]{[1788]} أنه يبقى دائماً ، ثم إنه رفعه بعد ذلك ، فها هنا كان جاهلاً ، ثم بدا له ذلك ، [ وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً ]{[1789]} فثبت أن النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وهما مُحَالان على الله تعالى ، فكان النسخ منه محالاً ، [ فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً ]{[1790]} ، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح ، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [ جانب إلى ] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً ، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم ، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى ، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى : { قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ } .
وتقديره : أن الجهات كلها لله - عز وجل - مُلْكاً ومِلْكاً ، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة ؛ لأن الله عز وجل جعلها قبلة ، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتَّحويل من جهة إلى جهة ؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السُّنة .
وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان :
الأول : لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعظّمه ، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً ، وذلك مصلحة مطلوبة .
وثانيها : أن الكعبة منشأ محمد صلى الله عليه وسلم ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد - عليه الصلاة والسلام - وذلك أمر مطلوب [ لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع ، والمفضي إلى المطلوب مطلوب{[1791]} ] .
وثالثها : أن الله - تعالى - بين ذلك في قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ }
[ البقرة : 143 ] فأمرهم الله - تعالى - حين كانوا ب " مكة " أن يتجهوا إلى " بيت المقدس " ليتميزوا عن المشركين ، فلما هاجروا إلى " المدينة " وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود .
[ ورابعها : أن في أفعاله حكماً ، ثم إنها تارة تكون ظاهرة لنا ، وتارة تكون مستورة خفية عنا ، وتحويل القبلة يمكن أن يكون لمصالح خفية ، وإذا كان كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في الإسلام{[1792]} ] .
فصل في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد أم لا ؟
اختلفوا هل كان استقباله بيت المقدس عن رأي واجتهاد أم لا ؟
فقال الحسن : كان عن رأي واجتهاد ، وهو قول عكرمة وأبي العالية .
وقال القرطبي : كان مخيراً بينه وبين الكعبة ، فاختار بيت المقدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم .
وقال الزجاج : امتحاناً للمشركين ، لأنهم ألغوا الكعبة .
وقال ابن عباس : وجب عليه استقباله بأمر الله - تعالى - ووحيه لا مَحَالَةَ ، ثم نسخ الله ذلك ، وهو قول جمهور العلماء نقله القرطبي .
اختلفوا أيضاً حين فرضت عليه الصَّلاة أولاً ب " مكة " ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة ؟ على قولين :
فقالت طائفة : إلى بيت المقدس وب " المدينة " سبعة عشر شهراً ، ثم صرفه الله - تعالى - إلى الكعبة ، قاله ابن عباس .
وقال آخرون : أول ما افترضت الصلاة إلى الكعبة ، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه ب " مكة " على ما كان عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ، فلما قدم " المدينة " صلى إلى " بيت المقدس " ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً على الخلاف ، ثم صرفه الله إلى " الكعبة " .
قال ابن عمر : وهذا أصح القولين عندي .
قوله تعالى : { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } تقدم الكلام على الهداية ، قالت المعتزلة : إنما هي الدلالة الموصلة ، والمعنى : أنّه - تعالى - يدلّ على ما هو للعبادة أصلح ، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم - إذ تمسّكوا به - إلى الجنة .
قال أصحابنا : هذه الهداية : إما أن يكون المراد منها الدعوة ، أو الدلالة ، أو تحصيل العلم فيه ، والأولان باطلان ؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين ، فوجب حمله على الوجه الثالث ، وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى .