" الرِّبَا " في اللُّغة{[4685]} : عبارةٌ عن الزِّيادة ؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً ، ومنه قوله : { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج :5 ] ، أي زادت ، وأربى الرَّجل : إذا عامل في الربا ، ومنه الحديث " مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى " ، أي : عامل بالرِّبا ، والإجباء : بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه{[4686]} .
والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع ، ومنه الرَّبوة . وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً : [ الطويل ]
وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ *** نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ{[4687]}
والرِّبا : لامه واوٌ ؛ لقولهم : ربا يربو ؛ فلذلك يثنَّى بالواو ، ويكتب بالألف . وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء ، وكذلك كتابته ، قالوا : لكسر أوَّله ، ولذلك أمالوه ، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول ، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو ، المكسور الأول ، أو المضمومه ؛ نحو : " رِبا " ، و " عُلا " حكمه ما ذكرته عنهم ، فأمَّا المفتوح الأول نحو : عصا ، وقفا ، فلم يخالفوا البصريين ، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ .
وقيل : إنما بالواو ؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة يقولون : " الرِّبَوا " بالواو ، فكتبوها كذلك ، ونقلها أهل الحجاز كذلك ؛ خطّاً لا لفظاً .
قرأ العدويُّ : " الرِّبَو " كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء{[4688]} . فقيل : هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف ، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً ؛ فيقول : هذه أفعو ، وهذا من ذاك ، إلاَّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف .
وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك ، فقال : " قرأ بعضهم{[4689]} بكسر الراء ، وضمِّ الباء ، وواو بعدها " ، ونسب هذه للغلط ؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة ، بل إذا وجد ذلك ، لم يقرَّ على حاله ، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً ، والواو ياءً ، نحو : دلوٍ وأدلٍ ، وجروٍ وأَجْرٍ ؛ وأنشد أبو عليّ : [ البسيط ]
لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ *** بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ{[4690]}
ونهاية ما قيل فيها : أنَّ قارئها قلب الألف واواً ؛ كقولهم في الوقف : أَفْعَو ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ، قيل : ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع ؛ فظنَّه بضمِّ الباء ؛ لأجل الواو ؛ فنقلها كذلك ، وليت الناس أخلوا تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها ، ومن تعاليلها ، ولكن صار التارك لها ، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها .
ويقال : رِبا ورِما ، بإبدال بائه ميماً ؛ كما قالوا : كثم في كثب . والألف واللام في " الرِّبا " : يجوز أن تكون للعهد ، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس .
فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها
اعلم أنَّ بين الصدقة ، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك ؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله - سبحانه وتعالى - عنه ، فكانا كالمتضادَّين ، ولهذا قال تعالى : { يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة :276 ] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع ، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات ، وخصَّ الأكل ؛ لأنه معظم الأمر ؛ كقوله : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } [ النساء :10 ] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل ، وإنما يصرف في المأكول ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا ، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ ، والمحلِّلَ لَهُ{[4691]} " فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل .
الرِّبا قسمان : ربا النَّسيئة ، وربا الفضل .
أمَّا ربا النسيئة ، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا{[4692]} في الحقِّ والأجل ، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية .
وأمَّا " ربا الفضل " فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها ، أو ما أشبه ذلك .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول ، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة ، وكان يجوِّز ربا الفضل ؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريّ : أشهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع ! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب ، ثم قال أبو سعيدٍ : لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ ، ما دمت على هذا .
قال محمد بن سيرين : كنَّا في بيتٍ ، ومعنا عكرمة ، فقال رجلٌ : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ ، ومعنا ابن عباس فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي ، ثم بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّمه ، فاشهدوا أنِّي حرمته ، وبرئت منه إلى الله .
وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً ؛ وقوله : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } [ لا يتناوله ؛ لأن الرِّبا عبارةٌ عن الزيادة ، وليست كلُّ زيادةٍ محرمةً ؛ بل قوله { وَحَرَّمَ الرِّبَا }{[4693]} ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً ، وذلك هو ربا النَّسيئة ، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة ؛ فثبت أنَّ قوله { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } يتناول ربا الفضل ، وقوله : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } لا يتناوله ؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث ؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد ، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد : هل يجوز أم لا ؟
وأمَّا جمهور العلماء ، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أمَّا القسم الأوَّل ، ربا النَّسيئة فبالقرآن ، وأمَّا ربا الفضل ، فبالخبر ، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا . فقال جمهور الفقهاء{[4694]} : حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة ؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس : بل الحرمة مقصورة عليها .
ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً :
أحدها : أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً ، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ{[4695]} " ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةً مديدةً عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد ؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه ، لتمكّن من التجارة به ، والربح ، فلمَّا تركه في يد المديون ، وانتفع المديون به ، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد ؛ عوضاً عن انتفاعه بماله .
فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ ، وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم ، لا ينفكُّ عن نوع ضرر .
وثانيها : أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب ؛ لأنه إذا حصّل الدرهم بالربا ، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة ، والصناعة ، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أنَّ [ مصالح العالم ]{[4696]} لا تنتظم إلاَّ بالتجارات ، والعمارات ، والحرف ، والصِّناعات .
وثالثها : أنَّ الربا يفضي{[4697]} إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ؛ لأن الرِّبا إذا حرم ، طابت النفوس بقرض الدرهم ، واسترجاع مثله ، ولو حلَّ الربا ، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين ، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة ، والمعروف ، والإحسان .
ورابعها : أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً ، والمستقرض يكون فقيراً ، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً{[4698]} ، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم .
وخامسها : أنَّه غير معقولٍ المعنى .
قوله : " لاَ يَقُومُونَ " الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم ، وقال بعضهم : إنها حالٌ ، وهو سهوٌ ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر ؛ كقراءة من قرأ { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف :8 ] ؛ وقوله : [ الطويل ]
. . . لاَ أَنَا بَاغِيَا *** . . . {[4699]}
والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور .
قوله : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ } فيه الوجهان المشهوران وهما :
النصب على النعت ؛ لمصدر محذوف ، أي : لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان ، وهو المشهور عند المعربين .
أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر ، أي : لا يقومونه ، أي : القيام إلاَّ مشبهاً قيام الذي يتخبطه الشيطان ، وهو رأي سيبويه{[4700]} ، وقد قدَّمت تحقيقهما .
و " ما " الظاهر أنها مصدريةٌ ، أي : كقيام . وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ ، والتقدير : إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان ، وهو بعيدٌ .
و " يتخبَّطه " يتفعَّله ، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه ؛ فهو مثل : تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل ، نحو تقسَّمه : بمعنى قسمه ، وتقطَّعه : بمعنى قطعه . ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه : إذا ضرب بها الأرض . ويقال : فلانٌ يخبط خبط عشواء ؛ قال علقمة : [ الطويل ]
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ *** فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ{[4701]}
رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ *** تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ{[4702]}
والتخبط معناه : الضَّرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه ، إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان ، إذا مسَّه بخبلٍ ، أو جنونٍ ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش .
قوله : " مِنَ الْمَسِّ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون ، فيكون في موضع نصبٍ ، قاله أبو البقاء{[4703]} .
الثاني : أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى : { لاَ يَقُومُونَ } ، أي : لا يقومون من المسِّ الذي بهم ، إلا كما يقوم المصروع .
الثالث : أنه يتعلَّق بقوله : " يَقومُ " ، أي : كما يقوم المصروع من جنونه ؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان{[4704]} : وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق " مِنَ المَسِّ " بقوله : " لاَ يَقُومُونَ " ضعيفٌ ؛ لوجهين :
أحدهما{[4705]} : أنه قد شرح المسَّ بالجنون ، قلت : وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ ، وهو أعلى رتب التشبيه ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ *** . . . {[4706]}
فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا
القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة ، وهي{[4707]} أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة ، ثمَّ باعه بأحد عشر ، فهذا حلالٌ ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر ، يجب أن يكون حلالاً ؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين ، فهذا في ربا الفضل ، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة ؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ ، جاز ؛ فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ ، وجب أن يجوز ؛ لأنه لا فرق في العقل{[4708]} بينهما ، وإنما جاز ذلك ، لحصول التراضي من الجانبين ، فكذا هاهنا ، لما حصل التراضي من الجانبين ، وجب أن يجوز أيضاً ، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة ، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال ، شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ ، فإذا لم يجز الرِّبا ، لم يعطه ربُّ المال مجاناً ، فيبقى الإنسان في الشدة ، والحاجة ، وبتقدير جواز الربا فيعطيه{[4709]} ربُّ المال ؛ طمعاً في الزيادة ، والمديون يردُّه عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال ، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا ، كما قلنا في سائر البياعات{[4710]} أنَّها إنما شرعت ؛ لدفع الحاجة ، فهذه شبهة القوم .
فأجابهم الله تعالى بقوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس ؛ وهو{[4711]} لا يجوز .
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : لو كان الدِّين بالقياس ، لكانت هذه الشبهة لازمةً ، فلمَّا بطلت ، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس .
وفرَّق القفَّال{[4712]} بينهما ، فقال : من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين ، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين ، فلمَّا حصل التراضي{[4713]} على هذا التقابل ، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض . أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة ، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ ، ولا يمكن أن يقال : إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل ؛ لأن الإمهال ليس إلاَّ مالاً أو شيئاً يشار إليه ، حتى يجعله عوضاً عن{[4714]} العشرة الزائدة ؛ فافترقا .
فإن قيل : ما الحكمة في قلب هذه القضية ؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه ، وهم أرادوا قياس الربا عليه ؛ فكان نظم الكلام أن يقال : إنما الرِّبا مثل البيع ، فقلبه ، وقال : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ؟
فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم{[4715]} أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة ، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ ، والآخر بالحرمة ، وعلى هذا التقدير : فأيُّهما قدِّم ، أو أخِّر جاز .
قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } الظاهر أنه من كلام الله تعالى ، أخبر بأنه أحلَّ هذا ، وحرَّم ذاك ، وعلى هذا ؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب . وقال بعضهم : " هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا ، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول ؛ عطفاً على المَقُولِ " وهو بعيدٌ جداً ، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار ، لا يتمُّ إلاَّ بإضمار زيادةٍ ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام ؛ على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين ، والإضمار خلاف الأصل ، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار ، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية ، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار ، لما جاز لهم الاستدلال به . وأيضاً ، فقوله بعده : { فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ . . . } إلى قوله : { . . . خَالِدُونَ } يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة ، وبيَّن ضعفها ، فلو لم يكن قوله { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } من كلام الله تعالى ، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة ، فلم يكن قوله { فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ } - لائقاً بهذا الموضع .
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها .
قال ابن الخطيب{[4716]} : وهو المختار عندي لوجوه :
الأول : أنه ثبت في " أصول الفِقْهِ " أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب " لام " التَّعريف ، لا يفيد العموم البتَّة ، بل ليس فيه إلاَّ تعريف الماهيَّة ، ومتى كان كذلك ، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة .
الثاني : سلَّمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلاً قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } وإن أفاد الاستغراق إلاَّ أن قوله : " وأحل الله البيعات " أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله : { وأحل الله البيع } لا يفيد{[4717]} الاستغراق إلاَّ إفادة ضعيفة ، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى ، وكلام رسوله ؛ لأنه كذبٌ ، والكذب على الله محالٌ .
فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً ، فذلك جائزٌ ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب .
الثالث : روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ، وما سألناه عن الربا . ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم ، لما قال ذلك ؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات .
الرابع : أن قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وكل ربا حراماً ؛ والرِّبا : هو الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرَّم الجميع ؛ فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية ؛ فكانت مجملةً ، ووجب الرجوع في معرفة الحلال ، والحرام إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { فَمَن جَاءَهُ } يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء .
وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الخبر ، فإن كانت شرطيةً ، فالفاء واجبةٌ ، وإن كانت موصولةً ، فهي جائزةٌ ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط . ويجوز حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر ، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، ويقدَّر الفعل بعدها ؛ لأنَّ لها صدر الكلام ، والتقدير : فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته ، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً ؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً ؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها ، وشرط التفسير صحة التسلُّط . وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل ، وفاعله بالمفعول . وقرأ أبيّ{[4718]} والحسن : " جاءَتْه " على الأصل .
قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته ، وتكون لابتداء الغاية ؛ مجازاً ، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ ، أي : موعظةٌ من موعظات ربه ، أي : بعض مواعظه .
وقوله : " فَانْتَهَى " نسقٌ على " جاءَتْه " عطفه بفاء التعقيب ، أي : لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة .
وقوله : " وَمَنْ عَادَ " الكلام على " مَنْ " هذه في احتمال الشرط ، والموصول ، كالكلام على التي قبلها .
" عاد " أي : رجع ، يقال : عاد يعود عوداً ، ومعاداً ، وعن بعضهم : أنها تكون بمعنى " صار " ؛ وأنشد [ الطويل ]
وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ جَعْداً عَنَطْنَطاً *** إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ{[4719]}
تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا *** وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ{[4720]}
والضمير في قوله " فَأمْرُه " يعود على " مَا سَلَف " ، أي : وأمر ما سلف إلى الله ، أي : في العفو عنه وإسقاط التَّبعة منه . وقيل : يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى ، أي : فأمر المنتهي عن الربا إلى الله ؛ في العفو ؛ والعقوبة .
وقيل : يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية .
وقيل : يعود على الرِّبا ، أي : في عفو الله عمَّا شاء منه ، أو في استمرار تحريمه .
قال الواحديُّ{[4721]} " السُّلُوفُ " : التقدم ، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ ، ومنه الأمم السَّالفة ، وسالف الذكر ، وله سلفٌ صالحٌ : آباءٌ متقدِّمون ، ومنه
{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } [ الزخرف :56 ] أي : أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم ، وتجمع السَّلف على : أسلافٍ وسلوفٍ ، والسالفة والسُّلاف : المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ ، والسالفة من الوجه ؛ لتقدُّمها ؛ قال : [ الوافر ]
وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً *** وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالاَ{[4722]}
والسُّلفة : ما يقدَّم من الطعام للضَّيف . يقال : " سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ ، ولَهِّنُوهُ " أي : بادروه بشيءٍ مَّا ، ومنه : السَّلف في الدَّين ؛ لأنه تقدَّمه مالٌ .
والسَّالفة : العنق ؛ لتقدُّمه في جهة العلو ، والسلفة : ما قدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر : صفوتها ؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها .
قال الزجاج : أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه ، قبل نزول الآية ؛ كقوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال :38 ] ، وضعِّف ؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم ، لم يكن ذلك حراماً ، ولا ذنباً ؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : كلُّ ما أكل من الرِّبا ، وليس عليه ردُّه ، فأمَّا ما لم يقضَ بعد ، فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط ؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } [ البقرة :279 ] .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : في قوله تعالى : { وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ } وجوهٌ للمفسرين ، والذي أقوله : إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك ؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها .
أمَّا مقدمة الآية ؛ فلأن قوله { فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى } ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا ، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق ، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } فكان قوله : { فَانْتَهَى } عائداً إليه فيكون المعنى : فانتهى عن هذا القول .
وأما مؤخرة الآية فقوله : { وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } معناه عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا " فَأَمْرهُ إلى اللهِ " ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا ، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا ، وليس كذلك ؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى ؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم ، لكنَّ قوله " فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ " ليس كذلك ؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه ، وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ، ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلاَّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا ، ثم أكل الربا ؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ، فهو كقوله { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ النساء :48 ] . ثم قال : { وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ومن عاد إلى استحلال الربا ، حتى يصير كافراً ، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلاَّ للكافر .