اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ} (270)

قوله تعالى : { وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ } [ البقرة :106 ] { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة :197 ] وقد تقدَّم . وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة " نَذَرَ " في قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة :6 ] ، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة : وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ ، يقال : نذر فهو ناذرٌ ؛ قال عنترة : [ الكامل ]

ب- الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا *** والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي{[4609]}

وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف ، وفي الشرع على ضربين : مفسر : كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء ، ولا يجزيه غيره ، وغير مفسَّر كقوله : نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا ، ثم يفعله ، أو يقول : لله عليَّ نذرٌ ، ولم يسمِّه ، فيلزمه كفارة يمينٍ ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " َمَنْ نَذَرَ نَذْراً ، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى ، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً ، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ{[4610]} " .

قوله : { فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ } جواب الشرط ؛ إن كانت " ما " شرطيةً ، أو زائدة في الخبر ، إن كانت موصولة .

فإن قيل : لم وحَّد الضمير في " يَعْلَمُه " وقد تقدم شيئان النفقة ، والنذر ؟

فالجواب أن العطف هنا ب " أو " ، وهي لأحد الشيئين ، تقول : " إنْ جاء زيدٌ ، أو عمروٌ أكرمتُه " ، ولا يجوز : أكرمتها ، بل يجوز أن تراعي الأول نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ ، أو الثاني ، نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقة ، والآية من هذا ، ولا يجوز أن يقال : منطلقان . ولهذا أوَّل النحاة : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء :135 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . ومن مراعاة الأول قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا } [ الجمعة :11 ] ، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون . وروي عن النَّحاس{[4611]} أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقةٍ ، فإنَّ الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر ، فإنَّ الله يعلمه ، فحذف ، ونظَّره بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة :34 ] وقوله : [ المنسرح ]

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ{[4612]}

وقول الآخر في هذا البيت : [ الطويل ]

رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي *** بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي{[4613]}

وهذا لا يحتاج إليه ؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين ، وأمَّا " أَوْ " المقتضية لأحد الشيئين ، فلا . وقال الأخفش : الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء :112 ] وقيل : يعود إلى " ما " في قوله : " وَمَا أَنْفَقْتُمْ " لأنها اسمٌ كقوله : { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة :231 ] ، ولا حاجة إلى هذا أيضاً ؛ لما عرفت من حكم " أو " .

قوله : { فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ } أفاد : الوعد العظيم للمطيعين ، والوعيد الشديد للمتمردين ، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة ؛ كما قال : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة :27 ] ، وقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة :7 ، 8 ] .

قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } اعلم أنَّ الظالم قسمان :

الأول : من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي .

الثاني : من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غيره ، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً ، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير ، بل من باب الظلم على النَّفس .

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة

تمسَّك المعتزلة بهذه الآية ، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر ، قالوا : لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه ، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة ، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم ، وذلك يضاد الآية .

وأجيبوا بوجوه :

الأول : أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً ، بدليل قوله : { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة :123 ] ففرَّق تعالى بين الشفيع ، والناصر ؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع .

الثاني : أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه ، والناصر ينصره عليه ، والفرق ظاهرٌ .

وأجاب آخرون : بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ .

فإن قيل : لفظ " الظَّالِمِينَ " ، ولفظ " الأَنْصَارِ " جمعٌ ، والجمع إذا قوبل بالجمع ، توزع الفرد على الفرد ، فكان المعنى : ليس لأحدٍ من الظالمين ، أحدٌ من الأنصار .

قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد ؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد .

الوجه الثالث : أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص ، والأوقات ، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات ، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ .

الوجه الرابع : ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق ؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ ، فصار الدليل ظنياً ، والمسألة ليست ظنِّية ، فسقط التمسُّك بها .

و " الأَنْصَارُ " جمع نصير ؛ كأشرافٍ ، وشريف ، وأحبابٍ ، وحبيب .


[4609]:- ينظر: ديوانه (222)، شرح القصائد العشر (377)، العيني 2/551، الأشموني 2/246، التصريح 2/69، شرح شواهد الألفية 3/551 والمقاصد النحوية 3/551، والشعر والشعراء 1/259. والأغاني 9/212، البحر 2/328، الدر المصون 1/649.
[4610]:- ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (3/300) وقال: غريب وأخرجه أبو داود (3322) وابن ماجه (2127، 2128) والدارقطني (4/160) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/130) والطبراني في "الكبير" (11/412) عن ابن عباس بلفظ: من نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين وأخرجه الترمذي (1/197) عن عقبة بن عامر مرفوعا بلفظ: كفارة النذر إذا لم تسم كفارة يمين. وقال: حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه مسلم (2/45) بلفظ كفارة النذر كفارة يمين.
[4611]:- ينظر: إعراب القرآن للنحاس 1/290.
[4612]:- البيت لمالك بن العجلان وقيل لقيس بن الخطيم وهو في ديوانه (173) ينظر الكتاب (1/38) الأشموني 3/152، أمالي ابن الشجري 1/96، الدر المصون 1/649.
[4613]:- البيت لعمرو بن أحمر ينظر ديوانه ص 187، والدرر 2/62، وشرح أبيات سيبويه 1/249، والكتاب 1/75، وله أو للأزرق بن طرفة بن العمرد في لسان العرب (جول)، والدر المصون 1/649.