اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (272)

هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات ، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين .

قوله : " هُداهُمْ " : اسم ليس ، وخبرها الجارُّ والمجرور . و " الهُدَى " مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : ليس عليك أن يهتدوا ، يعني : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء .

وفيه طباقٌ معنويٌّ ، إذ التقدير : هَدْيُ الضَّالِّين ، وفي قوله : { وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي } مع قوله تعالى : { هُدَاهُمْ } جناسٌ مغاير ؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ ، والأخرى فعلٌ ، ومفعول { يَشَاءُ } محذوفٌ ، أي : هدايته .

فصل في بيان سبب النزول

روي في سبب النزول وجوه :

أحدها : أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر ، أتت إليها ؛ تسألها شيئاً ، وكذلك جدَّتها ، وهما مشركتان ؛ فقالت : لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك ؛ فنزلت هذه الآية ؛ فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتصدق عليهما{[4630]} .

الثاني : كان أُناسٌ من الأنصار ، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً ؛ فنزلت هذه الآية الكريمة{[4631]} .

الثالث : قال سعيد بن جبير : كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التصدق على المشركين ؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام ؛ فنزلت الآية{[4632]} الكريمة فتصدقْ عليهم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك ؛ حتى تمنعهم الصدقة ؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدقْ عليهم ، لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق ، وأما هداية البيان ، والدعوة ، فكان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن المراد به هو ، وأُمَّته ؛ ألا تراه قال : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ } [ البقرة :271 ] وهذا عامٌّ ، ثم قال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وظاهره خاصٌّ ، ثم قال بعده { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } وهذا عامٌّ ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة ، وعموم ما بعدها : عمومها أيضاً .

فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ

دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين ، لأن قوله تعالى : { وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } ولكنَّ المنفي بقوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } هو حصول الاهتداء ، على سبيل الاختيار ، فكان قوله : { وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى ، وتخليقه وتكوينه ؛ وهو المطلوب .

وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة ، والألطاف ، وزيادة الهدى ؛ وهو مردودٌ بما قررناه .

قوله : { فَلأَنْفُسِكُمْ } خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : فهو لأنفسكم شرط وجوابه ، " والخَيْرُ " في هذه الآية المال ؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال ، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ؛ نحو قوله : { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان :24 ] وقوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة :7 ] ونحوه .

وقوله : { إِلاَّ ابْتِغَاءَ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعولٌ من أجله ، أي : لأجل ابتغاء وجه الله ، والشروط هنا موجودةٌ .

والثاني : أنه مصدرٌ في محلّ الحال ، أي : إلاَّ مبتغين ، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ ، والمعنى : وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها ؛ إلاَّ ابتغاء وجه [ الله ] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين ، وهم الصحابة ، لأنهم كانوا كذلك ، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين ؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله .

قال بعض المفسرين{[4633]} : هذا جحدٌ لفظه نفيٌ ، ومعناه نفيٌ ، أي : لا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه .

قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } تأكيدٌ وبيان ؛ كقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } .

وقوله : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } جواب الشرط ، وقد تقدَّم أنه يقال : " وَفَّى " بالتشديد و " وَفَى " بالتخفيف و " أَوْفَى " رباعياً .

وإنما حسن قوله : " إِلَيْكُمْ " مع التوفية ؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية ، ومعناه{[4634]} يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة .

وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ ، وخبرٍ : في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في " إِلَيْكُمْ " ، والعامل فيها " يُوَفَّ " ، وهي تشبه الحال المؤكِّدة ؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله : " يُوَفَّ إِلَيْكُم " ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم ، لم يظلموا . ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب ، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ ، فيندرج فيه توفية أجورهم ؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى ، اندراجاً أوَّلياً .

فصل في المراد من الآية

في معنى الآية وجوه :

الأول : أن معناه : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلاَّ وجه الله تعالى ، وقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم ، وسدِّ خلَّة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم ، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم .

الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً ، إلاَّ أن معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر ، والنهي كثير ؛ قال تعالى :

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة :233 ] { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة :228 ] .

الثالث : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح ؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله .

فصل في ذكر الوجه في قوله { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ }

إذا قلت : فعلته : لوجه زيدٍ ، فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له ؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، وإذا قلت : فعلت هذا الفعل له ، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره ، أما إذا قلت : فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ .

فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم

أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم ؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع ، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره ؛ وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك .


[4630]:- انظر: تفسير الفخر الرازي (7/67)
[4631]:- انظر: المصدر السابق.
[4632]:- انظر: المصدر السابق.
[4633]:- ينظر: تفسير البغوي 1/258.
[4634]:- في ب: ومعنى.