قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ } الآية : في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ :
أحدها : - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ ، يدلُّ عليه سياق الكلام ، واختلفت عبارات المعربين فيه ، فقال مكي{[4635]} - ولم يذكر غيره - : " أَعْطُوا لِلْفقراءِ " ، وفي هذا نظرٌ ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى ، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل : إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى : { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف :43 ] ، وإمَّا لكونه فرعاً ؛ نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود :107 ] ويبعد أن يقال : لمَّا أُضمر العامل ، ضعف ؛ فقوي باللام ، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك ، وإن لم يضعف العامل ، وجعل منه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل :72 ] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وقدَّره أبو البقاء{[4636]} : " اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ " وفيه نظرٌ ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب . وقدَّره الزمخشريُّ : " اعْمدُوا ، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء " والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي ، لكن فيه ما تقدَّم .
الثاني : أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء ، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات ، قالوا : فلمن هي ؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء ، وفيها بيان مصرف الصَّدقات . وهذا اختيار ابن الأنباري .
قال ابن الخطيب{[4637]} : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق ، قال بعدها " لِلْفُقَرَاءِ " أي : ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل ، فتقول : عاقلٌ لبيبٌ ، والمعنى : أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب ، والفضَّة : ألفان ، أو مائتان ، أي : ذلك الذي في الكيس ألفان ، أو مائتان .
وأنشد ابن الأنباري : [ الرجز ]
تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى *** خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى{[4638]}
الثالث : أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ } [ البقرة :271 ] وهو مذهب القفَّال ، واستبعده الناس ؛ لكثرة الفواصل .
الرابع : أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } وفي هذا نظرٌ ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب ، فيصير نظير قولك : مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً . وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك ، معلِّلاً بما ذكرناه ، فقال : وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام " تنفقوا " الأخير في الآية المتقدمة الكريمة ؛ لأنه لا يفصل بين العامل ، والمعمول بما ليس منه ، كما لا يجوز : " كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ " .
الخامس : أنَّ " للفقراء " بدلٌ من قوله : " فلأَنْفُسِكُمْ " ، وهذا مردودٌ ؛ قال الواحدي ، وغيره : " لأنَّ بدل الشيء من غيره ، لا يكون إلا والمعنى مشتملٌ عليه ، وليس كذلك ذكر النفس هاهنا ؛ لأنَّ الإنفاق من حيث هو عائدٌ عليها ، وللفقراء من حيث هو واصلٌ إليهم ، وليس من باب { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران :97 ] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً " قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس ، ولا جزاءً منها ، ولا مشتملةً عليها ، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء :29 ] في أحد التأويلين .
والفقير : قيل : أصله من " فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ " ، أي : كسرت فقرات ظهره الداهية . قال الراغب{[4639]} : وأصل الفقير : هو المكسُورُ الفقار ، يقال : " فَقَرَتْه الفاقرةُ " أي : الداهية تكسر الفقار ، و " أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [ فَارْمِهِ " ] أي أمكنك من فقاره ، وقيل : هو من الفُقرة ، أي : الحفرة ، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء ، فقيرٌ : وفقرت للفسيل : حفرت له حفرة ؛ غرسته فيها ؛ قال : [ السريع أو الرجز ]
مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ{[4640]} *** . . .
قيل : هو اسم بئر ، وفقرت الخرز : ثقبته .
وقال الهروي : يقال " فَقَره " إذا أصاب فقار ظهره ، نحو : رَأَسَهُ ، أي : أصاب رأسه ، وبَطَنَهُ ، أي : أصاب بطنه . وقال الأصمعي : " الفقر : أن يحزَّ أنف البعير ، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم ، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل ، ومنه قيل : عمل به الفاقرة " . والفقرات - بكسر الفاء ، وفتح القاف - : جمع فقرة : الأمور العظام ، ومنه حديث السَّعي : " فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ : يَوْمَ وُلِد ، ويومَ يَمُوتُ ، ويومَ يُبْعَثُ " . والفقر - بضم الفاء ، وفتح القاف - : جمع فقرة ؛ وهي الحزُّ ، وخرم الخطم ، ومنه قول أبي زيادٍ : " يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه " ومنه حديث سعدٍ : " فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ " ، أي : شقٍّ ، وحزٍّ . وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عند قوله : " فإن أحصرتم " .
قوله : " فِي سَبِيلِ " في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل قبله ؛ فيكون ظرفاً له .
والثاني : أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع " أُحصروا " ، أي : مستقرين في سبيل الله . وقدَّره أبو البقاء{[4641]} بمجاهدين في سبيل الله ، فهو تفسير معنًى لا إعراب ؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق .
نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحو أربعمائةٍ ، وهم أصحاب الصُّفَّة ، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد ؛ يتعلمون القرآن الكريم ، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحث الله عليهم الناس ؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به ، إذا أمسى{[4642]} .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم ، وجهدهم ؛ فطيَّب قلوبهم ، فقال : " أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي{[4643]} "
واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ :
الأولى : قوله : { الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } والإحصار : أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرضٍ ، أو كسرٍ ، أو عدوٍّ ، أو ذهاب نفقةٍ ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء ، يقال : أحصر الرجل : فهو محصرٌ ، وفي معنى هذا الإحصار ، وجوه :
الأول : أنَّهم حصروا أنفسهم ، ووقفوها على الجهاد ؛ لأن قوله : { فِي سَبِيلِ اللهِ } مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن .
الثاني : قال قتادة - رحمه الله - وابن زيد : منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش ؛ خوف العدوِّ{[4644]} ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم ، قتلوهم{[4645]} .
الثالث : قال سعيد بن جبير ؛ وهو اختيار الكسائي : إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاروا زمنى ، فأحصرهم المرض ، والزمانة عن الضَّرب في الأرض{[4646]} .
الرابع : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هؤلاء القوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله ، فعذرهم الله{[4647]} .
الصفة الثانية : قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ } في هذه الجملة احتمالان :
أظهرهما : أنها حالٌ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه " الفقراء " ، وثانيهما : أنه مرفوع " أُحْصِرُوا " .
والاحتمال الثاني : أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب ؛ و " ضَرْباً " مفعولٌ به ، وهو هنا السفر للتجارة ؛ قال : [ الوافر ]
لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ *** وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ{[4648]}
ويقال : ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً ، ومَضْرِباً ، أي : سرتُ .
فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية
عدم استطاعتهم : إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين ، بأمر الجهاد ؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإمَّا لخوفهم من الأعداء ، وإمَّا لمرضهم ، وعجزهم ؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم .
الصفة الثالثة : قوله : " يَحْسَبُهم " يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف ، وكذلك ما بعدها .
" يَحْسَبُهُمْ " هو الظَّنُّ ، أي : إنّهم من الانقباض ، وترك المسألة ، والتوكل على الله ، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء .
وقرأ ابن عامرٍ{[4649]} ، وعاصمٌ ، وحمزة : " يَحْسَبُ " - حيث ورد - بفتح السين ، والباقون : بكسرها . فأمَّا القراءة الأولى ؛ فجاءت على القياس ؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ ، وهي لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم - ، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر ؛ جاءت في الماضي ، والمضارع بكسر العين منها : نَعِم يَنْعِم ، وبَئِس يَبْئِسُ ، ويَئِسَ يَيْئِس ، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة ، وعَمِد يَعْمِد ، وقياسها كلُّها الفتح ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال ، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة : أبو عمرو - وكفى به - ، والكسائي ، وقارئا الحرمين : نافع ، وابن كثير .
والجاهل هنا : اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه .
ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختبار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء ، و " أغنياءَ " هو المفعول الثاني .
قوله : " من التَّعَفُّفِ " في " مِنْ " هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها سببيةٌ ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم ، فهو مفعولٌ من أجله ، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ ، لفقد شرطٍ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل ، وفاعل التعفُّف هم الفقراء ، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب ، لكان الأحسن جرَّه بالحرف ؛ لأنه معرَّفٌ بأل ، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه ؛ نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبه ؛ قال القائل : [ الرجز ]
لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ *** وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ{[4650]}
والثاني : أنها لابتداء الغاية ، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم ، نشأت من تعفُّفهم ؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ ، إنما يحسبه غنى مالٍ ، فقد نشأت محسبته من تعفُّفهم ، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام .
والثالث : أنها لبيان الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : يكون التعففُ داخلاً في المحسبة ، أي : إنه لا يظهر لهم سؤالٌ ، بل هو قليلٌ ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه ، ف " مِنْ " لبيان الجنس على هذا التأويل .
قال أبو حيَّان : " وليس ما قالَه مِنْ أنَّ " مِنْ " هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر " مِنْ " بموصولٍ ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف ؛ كقوله تعالى : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج :30 ] يصح أن يقال : الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : " يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف " لم يصحَّ هذا التقدير ؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم ، أي : غناهم بالتعفف لا غنى بالمال ، فسمَّى " مِنْ " الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ " مِنْ " سببية ، لكنها تتعلق بأغنياء ، لا بيحسبهم " . انتهى .
وتتعلَّق " مِنْ " على الوجهين الأولين بيحسبهم . قال أبو البقاء{[4651]} رحمه الله : " ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى " أغْنِياء " ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أنَّ معنى الآية : أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم ؛ فيظنُّهم أغنياء ، ولو علِّقت بأغنياء ، صار المعنى ، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال " . انتهى ، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً .
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء ؛ لأن المعنى يعود إليه ، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان ، وعلى الجملة : فكونها لبيان [ الجنس ، قلق المعنى ] .
والتعفُّف : تفعُّل من العفَّة : وهو ترك الشيء ، والإعراض عنه ، مع القدرة على تعاطيه ؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ *** وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ{[4652]}
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي *** أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ{[4653]}
ومنه : " عَفِيفُ الإِزَارِ " كنايةٌ على حصانته ، وعرَّف التعفف ، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود ، ومتعلَّق التعفف ، محذوفٌ ؛ اختصاراً ، أي : عن السؤال ، والأحسن ألاَّ يقدَّر .
الصفة الرابعة : قوله : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } السِّيما : العلامة بالقصر ويجوز مدُّها ، وإذا مدَّت ، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ ، للإلحاق : إمَّا واوٌ ، وإمَّا ياء ، فهي كعلباء ملحقة بسرداح ، فالهمزة فيه للإلحاق ، لا للتأنيث ؛ وهي منصرفةٌ لذلك .
و " سيما " مقلوبة ، قدِّمت عينها على فائها ؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة ، أي : العلامة ، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً ، فوزن سيما : عِفْلا ، كما يقال اضمحلَّ ، وامضحلَّ ، [ و ] " وَخِيمَة " ، و " خامة " وله جاهٌ ، ووجه ، أي : وجاهَةٌ .
وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين :
أحدهما : " أُحْصِروا " مع قوله : { ضَرْباً فِي الأَرْضِ } .
والثاني : قوله تعالى : " أَغْنِيَاءَ " ، مع قوله : " لِلْفُقَرَاءِ " نحو : { أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم :43 ] و{ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم :44 ] . ويقال " سِيمِيَا " بياء بعد الميم ، وتمدُّ كالكيمياء ؛ وأنشد : [ الطويل ]
غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً *** لَهُ سِيمِيَاءُ لاَ تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ{[4654]}
والباء تتعلَّق ب " تَعْرِفُهُمْ " ومعناها السببية ، أي : إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم . والسِّيما : العلامة ، وقال قومٌ : السِّيما : الارتفاع ، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور .
قال القرطبيُّ{[4655]} : هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك ، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام ، وعليه زنَّارٌ ، وهو غير مختونٍ ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين ، ويقدَّم ذلك على حكم الدار ؛ في قول أكثر العلماء ، ومنه قوله تعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد :30 ] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ ، وكسوة وزيٌّ في التجمل .
قال مجاهد : هو التخشع ، والتواضع{[4656]} .
وقال الربيع ، والسديُّ : أثر الجهد من الفقر ، والحاجة{[4657]} .
وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع{[4658]} ، والضر .
وقال ابن زيدٍ : رثاثة ثيابهم{[4659]} .
قال ابن الخطيب{[4660]} : وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةٌ على حصول الفقر ، وذلك يناقض قوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } بل المراد شيء آخر ، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، كل من رآهم تأثر منهم ، وتواضع لهم ؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ ، لا علاتٌ جسمانيةٌ ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها ، لا بالتجربة ؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، وكذلك البازي{[4661]} ، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة ، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية ، لا جسمانية فكذا هاهنا ، روي أنهم كانوا يقومون الليل ، للتهجّد ، ويحتطبون بالنهار ؛ للتعفف .
الصفة الخامسة : قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } في نصبه " إلحافاً " ثلاثة أوجه :
أحدها : نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر ، أي : يلحفون إلحافاً ، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل " يَسْألون " .
والثاني : أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : لا يسألون ؛ [ لأجل الإلحاف .
والثالث : أن يكون مصدراً في موضع الحال ، تقديره : لا يسألون ] ملحفين .
الإلحاف : هو الإلحاح ؛ قال عطاءٌ : إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً ، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً{[4662]} .
وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف ، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف ، الذي إن أعطي كثيراً ، أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ{[4663]} .
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ ، ومَنْ يَسْتَغْنِ ، يُغْنِه اللهُ ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ ، يُعِفَّهُ الله ، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ{[4664]} " .
اعلم : أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه ، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد ؛ نحو : " مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً " ، الأكثر على أنك رأيت رجلاً ، ولكن ليس بصالح ، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً البتة ؛ لا صالحاً ولا طالحاً ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } المفهوم أنهم يسألون ، لكن لا بإلحاف ، ويجوز أن يكون المعنى : أنهم لا يسألون ، ولا يلحفون ؛ والمعنيان منقولان في التفسير ، والأرجح الأول عندهم ، ومثله في المعنى : " مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا " يجوز أنه يأتيهم ، ولا يحدِّثهم ، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم ، انتفى السبب ، وهو الإتيان ، فانتفى المسبَّب ، وهو الحديث .
وقد شبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس ؛ وهو قوله : [ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *** إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا{[4665]}
قال أبو حيَّان : " تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، أي : لا سؤال ولا إلحاف ، وكذلك هذا : لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصحُّ : لا إلحاف ، فلا سؤال ؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار ، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب : " لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً " لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص ؛ فتلخَّص من هذا : أنَّ نفي الشيئين : تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ ، فتنتفي جميع عوارضه ، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما ، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فتنتفي لنفيه عوارضه " .
قال شهاب الدين : قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال : " تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي ؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح ، يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية " . وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وجوابه ما تقدم : من أنَّ المراد نفي الشيئين ، لا بالطريق المذكور في البيت ، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً : " ونظير هذا : ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا " فعلى الوجه الأول : يعني نفي القيد وحده : ما تأتينا محدِّثاً ، إنما تأتي ولا تحدِّث .
وعلى الوجه الثاني : يعني نفي الحكم بقيده ب " ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ ، فلا يكونُ حديثٌ " ، وكذلك هذا : لا يقع منهم سؤالٌ البتَّة ، فلا يقع إلحاحٌ ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح ؛ لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ، ووجود غيره ؛ لأنه كان يصير المعنى الأول ، وإنما يراد بنفي هذا الوصف ، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول ؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم ، فتنتفي مترتِّباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان ، فانتفى الحديث ، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان : من المجالسة ، والمشاهدة ، والكينونة في محلٍّ واحد ، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات " وهذا يقرر ما تقدَّم .
وأمَّا الزمخشريُّ : فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج ، فإنه قال : " وقيل : هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً ؛ كقوله : [ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ *** . . . {[4666]}
يريد نفي المنار والاهتداء به " .
قال شهاب الدين : وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه ، قد قبلها الناس ، ونصروها ، واستحسنوا تنظيرها بالبيت ؛ كالفارسيِّ ، وأبي بكر بن الأنباريِّ ، قال أبو عليٍّ : لم يُثْبِتْ في قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } مسألةً فيهم ؛ لأن المعنى : ليس منهم مسألةٌ ، فيكون منهم إلحافٌ ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ السريع ]
لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا *** وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ{[4667]}
أي : ليس فيها أرنبٌ ؛ فيفزع لهولها ، ولا ضبٌّ فينجحر ، وليس المعنى : أنه ينفي الفزع عن الأرنب ، والانجحار عن الضب .
وقال أبو بكرٍ : تأويل الآية : لاَ يَسْأَلُونَ الْبَتةَ ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف ؛ فجرى هذا مجرى قولك : فلانٌ لا يُرْجى خيره ، أي : لا خير عنده البتة فيرجى ؛ وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى *** كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ{[4668]}
أي : ليس بهن وجًى ، فيشتكين من أجله ؛ وقال الأعشى : [ البسيط ]
لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ *** وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ{[4669]}
معناه : ليس بساقه أينٌ ، ولا وصبٌ ؛ فيغمزها .
وقال الفراء{[4670]} قريباً منه ، فإنه قال : " نفى الإلحاف عنهم ، وهو يريد جميع وجوه السؤال ؛ كما تقول في الكلام : " قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل " ولعلك لم تر قليلاً ، ولا كثيراً من أشباهه " .
وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف ، وأن التقدير : لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً ، ولا غير إلحاف ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل :81 ] ، أي : والبرد .
وقال بعضهم{[4671]} : إنَّ السائل الملحف الملح ، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } أي : لا يسألون الناس بالرِّفق ، والتَّلطُّف ، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه ، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى .
وذكر ابن الخطيب - رحمه الله - فيها ثلاثة أوجه أخر :
أحدها : أنه ليس المقصود من قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً ؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف ، وإذا علم أنهم لا يسألون البتة ، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً ، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، مثاله : إذا حضر عندك رجلان : أحدهما عاقلٌ ، وقورٌ ثابتٌ ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما ، وتعرض بالآخر ، قلت : فلانٌ ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام ، لا يخوض في الترّهات ، ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك : لا يخوض في التّرّهات ، والسفاهات ، وصفه بذلك ؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك ؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني ؛ فكذا هاهنا قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } بعد قوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً .
وثانيها : أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته ، فإنه لا يمكنه ترك السؤال ؛ إلاَّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } أي : لا يسألون الناس ، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس ، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال ، ومنه قول عمر بن الخطَّاب : [ الوافر ]
وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا *** تُنَازِعُنِي : لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي{[4672]}
وثالثها : أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر ، والمذلَّة ، والمسكنة ؛ ثم سكت عن السؤال ، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف ؛ لأن ظهور أمارات الحاجة ، تدلُّ على الحاجة ، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة ، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك ، رقَّ له قلبه جدّاً ، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً ، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } معناه : أنهم سكتوا عن السؤال ، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال ، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف ، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس ، ويتجملون عند الخلق ، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلاَّ الخالق .
قال ابن عبد البرِّ{[4673]} : من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه . ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل ، وقد سئل عن المسألة ، متى تحل ؟ قال : إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه ، قيل لأبي عبد الله : فإن اضطرَّ إلى المسألة ؟ قال : هي مباحةٌ إذا اضطر .
قيل له : فإن تعفَّف ؟ قال : ذلك خيرٌ له ، وقال : ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع ؛ الله يأتيه برزقه ، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ : " مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله " .
قال أبو بكر : وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً ؛ أيسأل الناس ، أم يأكل الميتة ؟ فقال : أيأكل الميتة ، وهو يجد من يسأله ؟ هذا شنيعٌ .
قال القرطبيُّ{[4674]} : فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ ، فله أن يقبله ولا يرده ؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله ، لما روي " أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ ، فردَّه ؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لِمَ رَدَدْتَه ؟ " فقال : يا رسول الله ، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ، فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله " . فقال عُمَر بن الخطَّاب : " والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً ، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه{[4675]} " .
والإلحاف ، والإلحاح ، واللَّجاج ، والإحفاء ، كلُّه بمعنًى ، يقال : أَلحف ، وألحَّ في المسألة : إذا لجَّ فيها .
وفي الحديث : " مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ ، فَقَدْ أَلْحَفَ{[4676]} " ، واشتقاقه من اللِّحاف ؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته ، ويعمُّهم ؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه ؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ ، يحضن بيضه بجناحيه ، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف : [ الوافر ]
يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ *** وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا{[4677]}
وقال آخر في المعنى : [ الرمل ]
ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ *** يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ{[4678]}
أي : يلبسونها الأرض ، كإلباس اللِّحاف للشيء . وقيل : بل اشتقاق اللفظة من " لَحْفِ الجَبَلِ " وهو المكان الخشن ، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته ، وقيل : بل هي من " لَحَفني فُلاَنٌ " ، أي : أعطاني فضل ما عنده ، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل .
قوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ } هو نظير قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة :272 ] ، وليس بتكرارٍ ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [ البقرة :272 ] فهم منه التوفية من غير بخسٍ ؛ ولا نقصان ، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل ، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب .