اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

قوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ } كقوله " مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ كمثلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْع " في جميع التَّقادير فليُراجع . وقرأَ الجحدريُّ " كَمَثَلِ حَبَّةٍ " بالحاءِ المُهملة والباءِ .

في قوله : " ابْتِغَاءَ " وجهان :

أحدهما : أَنَّهُ مفعولٌ من أجله ، وشروطُ النَّصب متوفّرة .

والثاني : أَنَّهُ حالٌ ، و " تَثْبِيتاً " عطفٌ عليه بالاعتبارين ، أي : لأجل الابتغاء والتَّثبيت ، أو مُبتغين مُتَثَبِّتين . ومنع ابن عطيَّة أن يكون " ابتغاء " مفعولاً من أجله ، قال : " لأَنَّهُ عَطَفَ عليه تَثْبِيتاً ، وتثبيتاً لا يصحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجله ، [ لأنَّ الإِنفاقَ لا يكُونُ لأجل التَّثبيتِ ] . وحَكَى عن مكي{[4514]} كونه مفعولاً من أجله ] قال : " وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ " .

وهذا الَّذي رَدَّه لا بُدُّ فيه من تفصيلٍ ، وذلك أَنَّ قوله تبارك وتعالى : " وَتَثْبِيتاً " إِمَّا أن يُجْعَل مصدراً متعدّياً ، أو قاصراً ، فإِنْ كان قاصراً ، أو متعدّياً ، وقدَّرنا المفعول هكذا : " وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنفُسهِم الثَّوابَ على تلك النَّفَقَة " ، فيكُونُ تثبيتُ الثَّواب وتحصيله من اللهِ حاملاً لهم على النَّفقة ، وحينئذٍ يصحُّ أَنْ يكونَ " تَثْبِيتاً " مفعولاً من أجلِهِ .

وإن قدَّرنا المفعول غير ذلك ، أي : وتَثْبِيتاً من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية ، أو جعلنا " مِنْ أَنْفُسِهِمْ " هو المفعول في المعنى ، وأنَّ " مِنْ " بمعنى اللام ، أي : لأنفسهم ، كما تقول : " فَعَلْتُه كَسْراً مِنْ شَهوتي " فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً لأجله .

وأبو البقاء{[4515]} قد قدَّر المفعول المحذوف " أَعْمالَهم بإِخلاص النيةِ " ، وجوَّز أيضاً أن يكونَ " مِنْ أنفسهم " مفعولاً ، وأن تكونَ " مِنْ " بمعنى اللام ، وقد كان قدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجله ، والحالية ؛ وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم .

وتلخَّص أنَّ في " من أنفسهم " قولين :

أحدهما : أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرف .

والثاني : أنه صفة ل " تثبيتاً " ، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً ، وكيف يقدَّر مفعوله ، وأَنْ يكونَ قاصراً .

فإن قيل : " تَثْبِيتٌ " مصدر ثَبَّت ؛ وثَبَّت مُتَعدٍّ ، فكيف يكون مصدرُه لازماً ؟

فالجواب : أَنَّ التثبيت مصدرُ تَثَبَّتَ ، فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها ؛ قال تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل :8 ] والأصل : " تَبتُّلاً " ويؤيِّد ذلك قراءة مجاهد{[4516]} " وَتَثَبُّتاً " ، وإلى هذا نحا أبو البقاء{[4517]} .

قال أبو حيان : " ورُدَّ هذا القول ؛ بأنَّ ذلك لا يكون إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدرِ ، نحو الآيةِ ، وأمَّا أَنْ يُؤْتَى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ ، فلا يُحْمَلُ على غير فعله الذي هو له في الأصل " ، ثم قال : " والذي نقولُ : إنَّ ثَبَتَ - يعني مُخفَّفاً - فعلٌ لازمٌ ، معناه تمكَّن ورَسَخ ، وثَبَّت مُعدًّى بالتضعيف ، ومعناه مكَّنَ وحقَّق ؛ قال ابن رواحة : [ البسيط ]

فَثَبَّتَ اللهُ مَا أَتَاكَ مِنْ حَسَنٍ *** تَثْبِيتَ عِيسَى وَنَصْراً كَالَّذِي نُصِرُوا{[4518]}

فإذا كان التثبيتُ مُسنداً إليهم ، كانت " مِنْ " في موضع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ ، وتكونُ للتبعيض ؛ مثلُها في " هَزَّ من عِطْفِهِ " ، و " حَرَّك مِنْ نشاطِه " وإن كان مُسْنداً في المعنى إلى أنفسهم ، كانت " مِنْ " أيضاً في موضعِ نصبٍ ؛ صفة لتثبيتاً " .

قال الزمخشريُّ : " فإنْ قُلْتَ : فما معنى التبعيضُ ؟ قلتُ : معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله تعالى ، فقد ثَبَّتَ بعض نفسه ، ومَنْ بَذَلَ روحَه ، وماله معاً ، فقد ثَبَّت نفسَه كُلَّها " . قال أبو حيان : " والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته ، وتَحْمِله على الإِنفاق في سبيل الله ، ليس له مُحرِّكٌ إلا هي ؛ لما اعتقدته من الإِيمانِ والثواب " يعني : فيترجَّحُ أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسهمِ . والابتغاءُ : افتعالٌ من بغيتُ ، أي : طلبتُ ، وسواءٌ قولك : بغيتُ ، وابتغَيْتُ .

فصلٌ

معنى قوله : { ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ } ، أي : طلب رضي الله " وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ " قال قتادة : احتساباً{[4519]} .

وقال الشعبيُّ ، والكلبيُّ : تصديقاً من أنفسهم{[4520]} ، أي : يخرجون الزكاة طيبةً بها أنفسهم ، على يقين الثواب ، وتصديقٍ بوعد الله ، ويعلمون أَنَّ ما أخرجوا خيرٌ لهم مما تركوا ، وقيل : على يقينٍ بإِخلافِ الله عليهم .

وقال عطاءٌ ، ومُجاهدٌ : يتثبتون ، أي : يضعونَ أَموالهُم{[4521]} .

قال الحسن : كان الرجل إذا همّ بصدقةٍ يتثبت ، فإن كان لله ، أَمضى ، وإن كان يخالطه شكٌّ ، أمسك{[4522]} ، ثم إنه تعالى لمَّا بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأَمران ، ضرب الإِنفاق مثلاً ، فقال : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } .

قال القرطبي{[4523]} : الجنة هي البستانُ ، وهي قطعة أرض تَنْبُت فيها الأشجار ، حتى تُغطيها ، مأخوذةٌ من لفظِ الجنّ والجنين ، لاستتارهم .

قوله : " بِرَبْوَةٍ " في محلِّ جرٍّ ؛ لأنه صفةٌ لجنة . والباءُ ظرفيةٌ بمعنى " في " ، أي : جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ . والربوةُ : أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ ، قاله الخليلُ . وهي مشتقةٌ من : رَبَا يَرْبُو ، أي : ارتفَع ، وتفسيرُ السدّيِّ لها بما انخفض من الأرض ليس بشيءٍ . ويقال : رَبْوةٌ ورَباوَةٌ ، بتثليثِ الراءِ فيهما ، ويُقال - أيضاً - : رابيةٌ ، قال القائل : [ الطويل ]

وَغَيْثٍ مِنَ الوَسْمِيِّ حُوِّ تلاَعُهُ *** أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النِّجَاءَ هَوَاطِلُهْ{[4524]}

وقرأ{[4525]} ابن عامرٍ ، وعاصم : " رَبْوَة " بالفتح ، والباقون : بالضمِّ ، قال الأخفشُ{[4526]} : " وَنَخْتَارُ الضمَّ ؛ لأنه لا يكاد يُسْمع في الجمع إلا الرُّبا " يعني فدلَّ ذلك على أن المفرد مضمومُ الفاءِ ، نحو بُرمة ، وبُرَم ، وصورة ، وصُوَر . وقرأ ابن عباسٍ{[4527]} : " رِبْوَة " بالكسر ، [ والأشهب ] العقيلي : " رِبَاوة " ، مثل رسالة ، وأبو جعفر : " رَبَاوة " مثل كراهة ، وقد تقدَّم أنَّ هذه لغاتٌ .

فصلٌ

تقدم أَنَّ الربوة : هي المرتفع من الأَرض ، ومنه الرابيةُ ، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الرَّبو إذا أصابه نفسٌ في جوفه زائِدٌ ، ومنه الرِّبا ؛ لأنه الزيادةُ قال المفسِّرون{[4528]} : إِن البُستان إذا كان في ربوةٍ من الأَرضِ ، كان أحسنَ ، وأكثر ريعاً .

قال ابن الخطيب{[4529]} : وفيه إشكالٌ : وهو أن البُستان إذا كان في موضع مرتفع من الأَرض ، فلا ترتفع إليه الأَنهارُ ، وتضر به الرياحُ كثيراً ؛ فلا يحسنُ ريعه وإذا كان في وهدةٍ من الأرض ، انصبت إليه مياه الأَنهار ، ولا يصل إليه إثارة الرياح ، فلا يحسن أيضاً ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوةً ، ولا وهدةً فإذن ليس المرادُ من هذه الربوة ، ما ذكروه ، بل المراد منه كونُ الأَرضِ طيناً حُرّاً بحيث إذا نزل المطرُ عليها ، انتفخ وربا ونما ، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها ، وتكمل أشجارها ، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك وتعالى : { وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج :5 ] والمرادُ من ربوها ما ذكرنا ، فكذا هاهنا .

وأيضاً فإنه تبارك وتعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأَول ، وهو الصَّفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ، ولا يربو ، ولا ينمُو ؛ بسبب نزول المطر عليه ، فكان المرادُ بالربوةِ في هذا المثل كون الأَرض بحيثُ تربُو ، وتنمُو والله أعلم .

قال ابن عطيَّة : ورياضُ الحزن ليست من هذا ، كما زعم الطبريُّ ؛ بل تلك هي الرياضُ المنسوبةُ إلى نجد ؛ لأنها خيرٌ من رياض تهامة ونباتُ نجدٍ أَعطرُ ، ونسيمهُ أبردُ وأرقُّ ، ونجد يقال لها حزن وقلَّما يصلح هواء تهامة إلاَّ بالليل ، ولذلك قالت الأَعرابية : " زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَة{[4530]} " .

قوله : { أَصَابَهَا وَابِلٌ } هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ :

أحدها : أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة ، هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور ، ثم بالجملةِ ؛ لأنه الأكثرُ في لسانهم ؛ لقُرْبهِ من المفرد ، وبُدئ بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونها بربوة ، ثم بالعارض ، وهو إصابةُ الوابل . وجاء قوله في وصفِ الصَّفوانِ بقوله : " عَلَيْهِ تُرَابٌ " ثم عطف على الصفةِ " فأَصابه وابلٌ " وهنا لم يعطفِ بل أَخرج صفةً .

والثاني : أن تكونَ صفةً ل " رَبْوَة " .

قال أبو البقاء{[4531]} : " لأنَّ الجنةَ بعضُ الرَّبْوَة " كأنه يعني أنه يلزمُ من وصفِ الربوة بالإِصابة ، وصفُ الجنَّةِ به .

الثالث : أن تكون حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ ؛ لوقوعهِ صفةً .

الرابع : أن تكونَ حالاً من " جنة " ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ النكرة قد تخَصَّصت بالوصفِ .

قوله : { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي أعطت و " أكلها " فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : وهو الأصحُّ أنَّ " آتَتْ " تتعدَّى لاثنين ، حذف أولهما وهو " صاحبها " ، أو " أهلها " . والذي حسَّن حذفه ، أنَّ القصدَ الإِخبارُ عمَّا تُثْمِرُ ، لا عمَّن تُثْمَرُ له ؛ ولأنه مقدرٌ في قوله : " كَمَثَلِ جَنَّةٍ " أي : غارس جَنَّةٍ ، أو صاحب جنةٍ ؛ كما تقدَّم . و " أُكُلَها " هو المفعول الثاني . و " ضِعْفَيْن " نصبٌ على الحالِ من " أُكُلَها " .

والثاني : أَنَّ " ضِعْفَيْن " هو المفعول الثاني ، وهذا غَلَطٌ .

والثالث : أنَّ " آتَتْ " هنا بمعنى أَخرجت ، فهو متعدِّ لمفعولٍ واحدٍ . قال أبو البقاء{[4532]} : " لأنَّ معنى " آتَتْ " : أَخْرَجَتْ ، وهو من الإِتاءِ ، وهو الرَّيع " . قال أبو حيان{[4533]} : " لاَ نَعْلَم ذلك في لسان العرب " . ونسبةُ الإِتَاءِ إليها مجازٌ .

وقرأ نافع{[4534]} وابن كثير وأبو عمرو " أُكْلَها " بضمِّ الهمزة ، وسكونِ الكافِ ، وهكذا كلُّ ما أُضيف من هذا إلى مؤنثٍ ، إلاَّ أبا عمرو ، فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير ، أو إلى ضمير المذكر ، والباقون : بالتثقيل مطلقاً ، وسيأتي إيضاحُ هذا كلّه . والأُكُلُ بالضم : الشيءُ المأكولُ والأَكلةُ في المعنى مثل الطّعمة ؛ وأنشد الأخفش : [ الطويل ]

فَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتُهَا بغَنِيمَةٍ *** وَلاَ جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بغرَامِ{[4535]}

وقال أبو زيدٍ : يقال : إنه لذو أكلٍ ، إذا كان له حظٌّ من الدنيا . وبالفتح مصدرٌ ، وأُضيف إلى الجنَّةِ ؛ لأنها محلُّهُ أو سببهُ ومعنى " ضِعْفَيْنِ " أي : ضَعُفَتْ في الحملِ ؛ لأن ضعفَ الشيءِ مثله زائداً عليه ، وقيل : ضِعفُ الشيء مِثْلاهُ .

قال عطاءٌ : حملت في سنةٍ من الرَّيع ما يحملُ غيرها في سنتين{[4536]} .

وقال عكرمة : حملتْ في السنة مرَّتين{[4537]} .

وقال الأَصمُّ{[4538]} : ضِعْفَ ما يكونُ في غيرها .

قوله : { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } . الفاءُ : جواب الشرطِ ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدها ؛ لتكمل جملة الجواب . واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه :

فذهب المبردُ إلى أنَّ المحذوف خبرٌ ، وقوله : " فَطَلٌّ " مُبتدأٌ ، والتقديرُ : " فَطَلٌّ يصيبها " . وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ ؛ لأنها في جوابِ الشرطِ ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداءِ بالنكرةِ ، ومن كلامهم : " إِنْ ذَهَبَ عَيْرٌ ، فَعَيْرٌ في الرِّباطِ " .

والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : فالذي يُصيبها طلٌّ .

والثالث : أنه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ ؛ تقديره : فيُصيبها طلٌّ ، وهذا أَبْيَنُها .

إلاَّ أنَّ أبا حيَّان{[4539]} قال - بعد ذكر الثلاثة الأَوجه - " والأَخير يحتاجُ فيه إلى حذف الجملة الواقعةِ جواباً ، وإبقاءِ معمولٍ لبعضها ؛ لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارع ، فإنما هو على إضمارِ مُبتدأ ؛ كقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ } [ المائدة :95 ] [ أي : فهو يَنْتقمُ ] ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا ، أي : فهي ، أي : الجنةُ يُصيبها طلٌّ ، وأمَّا في التقديرين السابقين ، فلا يحتاجُ إِلاَّ إلى حذف أحد جُزْئي الجملة " . قال شهاب الدِّين : وفيما قاله نظرٌ ؛ لأنَّا لا نُسلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يحتاجُ إلى إضمار مبتدأ . ونظيرُ الآية قول امرئ القيس : [ الوافر ]

أَلاَ إِنْ لاَ تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى *** كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا العِصِيُّ{[4540]}

فقوله : فَمِعْزَى " فيه التقاديرُ الثلاثةُ .

وادَّعى بعضهم أنَّ في هذه الآية الكريمة تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : " أصابها وَابِلٌ ، فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ " حتى يُجْعَلَ إيتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين : من الوَابِلِ ، والطَّلِّ ، وهذا لا حاجة إليه ؛ لاستقامةِ المعنى بدونِه ، والأصلُ عدمُ التقديم والتأخير ، حتى يخُصُّه بعضهم بالضرورةِ .

والطَّلُّ : المُسْتَدَقُّ من القَطْرِ الخَفِيف وقال مجاهدٌ : " هو النَّدَى{[4541]} " وهذا تَجَوُّزٌ منه ؛ ويقال : طلَّه النَّدى وأَطَلَّه أيضاً ؛ قال : [ الطويل ]

وَلَمَّا نَزَلْنَا مَنْزِلاً طَلَّهُ النَّدَى *** . . . {[4542]}

ويُجمع " طَلٌّ " على طِلال ؛ نقول : طُلَّت الأَرضُ ، وأَطلها النَّدى فهي مطلولةٌ قال الماوردي : وزرعُ الطَّلِّ أضعفُ مِنْ زرع المطرِ ، وأقلُّ ريعاً{[4543]} .

فصلٌ

هذا مثلٌ ضربه اللهُ تعالى ؛ لعمل المؤمن المخلص ، فيقول : كما أنَّ هذه الجنة تريع في كل حالٍ ، ولا تُخلفُ سواء قلَّ المطرُ أو كثُر ؛ كذلك يُضعِّف اللهُ صدقةَ المؤمن المخلص الذي لا يَمنّ ، ولا يُؤذي سواءٌ قلَّت نفقته أو كثرت ، وذلك أن الطَّلَّ إذا كان يدومُ ، يعملُ عمل الوابل الشديد .

وقيل : معناه إن لم يُصبها وابلٌ حتى تضاعف ثمرتها ، فلا بُدَّ وأَنْ يصيبها طلٌّ يُعْطي ثمراً دون ثمر الوابل ، فهي على كُلِّ حالٍ لا تخلو من ثمرة ، فكذلك من أخرج صدقةً لوجه الله تعالى ، لا يضيع كسبه ؛ قليلاً كان ، أو كثيراً .

قوله : { وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } هذا وعدٌ ، ووعيدٌ .

قرأ الجمهور : تعملون خطاباً وهو واضحٌ ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعث على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجه اللهِ تعالى ، والزاجر عن الرياءِ والسُمعة . وقرأ الزهري{[4544]} : بالياء على الغيبة ، ويحتمل وجهين :

أحدهما : أن يعودَ على المُنفقين .

والثاني : أن يكون عاماً فلا يخُصُّ المنفقين ، بل يعودُ على الناسِ أجمعين ؛ ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندِراجاً أولياً .

والمراد من البصير : العليمُ ، أي : هو تبارك وتعالى عالمٌ بكمية النفقاتِ وكيفيتها والأمور الباعثة عليها ، وأنه تعالى يجازي بها .


[4514]:- ينظر: المشكل 1/112.
[4515]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/113.
[4516]:- انظر: البحر المحيط 2/323، والدر المصون 1/639.
[4517]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/113.
[4518]:- ينظر: ديوانه (94)، والبحر المحيط 2/323، والدر المصون 1/640.
[4519]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/534) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/601) وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
[4520]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/532) عن عامر الشعبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/601) وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[4521]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/532) وعبد بن حميد كما في "الدر المنثور" (1/601) عن مجاهد.
[4522]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/533) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/601) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن.
[4523]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/204.
[4524]:- البيت لزهير: ينظر ديوانه (127)، البحر 2/314، والدر المصون 1/640.
[4525]:- انظر: السبعة 190، والكشف 1/313، وحجة القراءات 146، والعنوان 75، وشرح الطيبة 4/120، وشرح شعلة 297، وإعراب القراءات 1/98، 99، وإتحاف 1/452.
[4526]:- ينظر: معاني القرآن للأخفش 184.
[4527]:- انظر: المحرر الوجيز 1/359، والبحر المحيط 2/324، والدر المصون 1/640.
[4528]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/50.
[4529]:- ينظر: المصدر السابق.
[4530]:- ينظر: المحرر الوجيز 1/359.
[4531]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/113.
[4532]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/113.
[4533]:- ينظر: البحر المحيط 2/324.
[4534]:- انظر: السبعة 190، والكشف 1/313، والعنوان 75، والحجة 2/394، وإعراب القراءات 1/100، وشرح شعلة 297، وإتحاف 1/452.
[4535]:- ينظر: الرازي 7/50.
[4536]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/51، والبغوي 1/252.
[4537]:- ينظر: تفسير البغوي 1/252.
[4538]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/51.
[4539]:- ينظر: البحر المحيط 2/325-326.
[4540]:- ينظر: ديوانه (136)، البحر 2/326، دمنهوري 48، 73، والدر المصون 1/641.
[4541]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/539) عن السدي، وذكره البغوي في "تفسيره" (1/252) عن السدي أيضا.
[4542]:- ينظر: البحر 2/314، الدر المصون 1/642.
[4543]:- سقط في ب.
[4544]:- انظر: الشواذ 16، والمحرر الوجيز: 1/360، والبحر المحيط 2/326، والدر المصون 1/642.