قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . } الآية هي كقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] فيعود فيه ما تقدم بحاله{[33791]} ، وقوله : «المُحْصَنَات » فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ .
والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلَّب المؤنث على المذكر ؟
والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء ، أي : الأنْفُسَ المحصنات ، وهو بعيد{[33792]} أو تقول : ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي : والمُحْصَنين .
قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم{[33793]} بالتنوين في العدد{[33794]} ، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : «عندي ثلاثةٌ ضاربون » ، ويَضعف «ثلاثةُ ضاربين »{[33795]} وهذا غلط ، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا ، فَيُضَافُ{[33796]} إليها العددُ ، و «شُهَدَاء » من ذلك ، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه ، قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ }{[33797]} [ النساء : 41 ] . و «اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ }{[33798]} ، وتقول : عندي ثلاثةُ أعبد ، وكل ذلك صفةٌ في الأصل .
ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين{[33799]} العدد إلاّ في شعر{[33800]} .
وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثةُ رجالٍ »{[33801]} وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم .
وفي «شُهَدَاءَ » على هذه القراءة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تمييزٌ ، وهذا فاسد{[33802]} ، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة .
الثاني : أنه حالٌ ، وهو ضعيف{[33803]} أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ .
الثالث{[33804]} : أنها مجرورة نعتاً ل «أربعة »{[33805]} ، ولم تنصرف لألف التأنيث .
ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين .
واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :
الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات{[33806]} وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم{[33807]} العفاف .
الثالث : قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا .
الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا {[33808]} .
الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه{[33809]} .
وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض .
فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ ، فإن قال : زنا يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة .
والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفاً إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا .
فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه . والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا{[33810]} فما زنيت وليست أمي بزانية{[33811]} ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يُدْرَأ بالشبهات .
وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا {[33812]} .
إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، فإن{[33813]} أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد{[33814]} ، ( فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني .
وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيتِ بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتباراً باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون .
والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا .
ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا .
وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد ){[33815]} ، لأن هلال بن أمية{[33816]} قذف امرأته بشريك بن سحماء{[33817]} ، فقال عليه السلام{[33818]} : «البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك »{[33819]} ، فلم يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك .
وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ {[33820]} .
إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليه السلام{[33821]} : «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث »{[33822]} ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز {[33823]} .
والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة {[33824]} .
وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصفُ الحد{[33825]} . وقيل : الحد كله{[33826]} .
وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية {[33827]} .
وإن كان المقذوف{[33828]} غير محصَن لم يجب الحد ، بل يوجب{[33829]} التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً{[33830]} بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير{[33831]} .
قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } أي : يشهدون على زناهن { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون } قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة{[33832]} ، وهو الأظهر ، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً {[33833]} .