اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . } الآية هي كقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] فيعود فيه ما تقدم بحاله{[33791]} ، وقوله : «المُحْصَنَات » فيه وجهان :

أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ .

والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلَّب المؤنث على المذكر ؟

والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء ، أي : الأنْفُسَ المحصنات ، وهو بعيد{[33792]} أو تقول : ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي : والمُحْصَنين .

قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم{[33793]} بالتنوين في العدد{[33794]} ، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : «عندي ثلاثةٌ ضاربون » ، ويَضعف «ثلاثةُ ضاربين »{[33795]} وهذا غلط ، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا ، فَيُضَافُ{[33796]} إليها العددُ ، و «شُهَدَاء » من ذلك ، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه ، قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ }{[33797]} [ النساء : 41 ] . و «اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ }{[33798]} ، وتقول : عندي ثلاثةُ أعبد ، وكل ذلك صفةٌ في الأصل .

ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين{[33799]} العدد إلاّ في شعر{[33800]} .

وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثةُ رجالٍ »{[33801]} وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم .

وفي «شُهَدَاءَ » على هذه القراءة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه تمييزٌ ، وهذا فاسد{[33802]} ، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة .

الثاني : أنه حالٌ ، وهو ضعيف{[33803]} أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ .

الثالث{[33804]} : أنها مجرورة نعتاً ل «أربعة »{[33805]} ، ولم تنصرف لألف التأنيث .

فصل

ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين .

واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :

الأول : تقدم ذكر الزنا .

الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات{[33806]} وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم{[33807]} العفاف .

الثالث : قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا .

الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا {[33808]} .

فصل

شروط الإحصان خمسة :

الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه{[33809]} .

فصل

وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض .

فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ ، فإن قال : زنا يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة .

والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفاً إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا .

فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه . والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا{[33810]} فما زنيت وليست أمي بزانية{[33811]} ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يُدْرَأ بالشبهات .

وقال مالك : يجب فيه الحد .

وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا {[33812]} .

فصل

إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، فإن{[33813]} أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد{[33814]} ، ( فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني .

وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيتِ بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتباراً باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون .

والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا .

ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا .

وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد ){[33815]} ، لأن هلال بن أمية{[33816]} قذف امرأته بشريك بن سحماء{[33817]} ، فقال عليه السلام{[33818]} : «البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك »{[33819]} ، فلم يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك .

وقيل : لكل واحد حدٌّ .

وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ {[33820]} .

فصل

إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليه السلام{[33821]} : «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث »{[33822]} ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز {[33823]} .

والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة {[33824]} .

وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصفُ الحد{[33825]} . وقيل : الحد كله{[33826]} .

وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية {[33827]} .

وإن كان المقذوف{[33828]} غير محصَن لم يجب الحد ، بل يوجب{[33829]} التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً{[33830]} بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير{[33831]} .

قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } أي : يشهدون على زناهن { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون } قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة{[33832]} ، وهو الأظهر ، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً {[33833]} .


[33791]:تقدم قبل صفحات.
[33792]:انظر البحر المحيط 6/431.
[33793]:هو عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح، أبو أحمد العجلي، الكوفي، نزيل بغداد، مقرئ مشهور ثقة أخذ القراءة عن حمزة الزيات، وعن سليم، وروى الحروف عن أبي بكر بن عياش وحفص بن سليمان، روى عنه الحروف ابنه أبو الحسن أحمد، وأحمد بن يزيد الحلواني، مات سنة 220 هـ. طبقات القراء 1/423.
[33794]:المختصر (100)، المحتسب 2/101، البحر المحيط 6/431.
[33795]:ذكر ابن عادل ما قاله ابن جني بالمعنى قال ابن جني: (هذا حسن في معناه وذلك أن أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف، لا يقال: عندي ثلاثة ظريفين، إلا في ضرورة إلى إقامة الصفة مقام الموصوف، وليس ذلك في حسن وضع الاسم هناك، والوجه عند ثلاثة ظريفون، وكذلك قوله: "بأربعة شهداء" لتجري "شهداء" على "أربعة" وصفا فهذا) المحتسب 2/101 فابن جني يذكر أصل القاعدة في حكم إضافة العدد من ثلاثة إلى عشرة إلى المعدود، وأنه لا بد أن يكون المعدود اسما لا وصفا، فإذا كان وصفا فالأصل التنوين للعدد ثم مجيء المعدود وصفا لهذا العدد.
[33796]:في ب: فينضاف.
[33797]:من قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41].
[33798]:[البقرة: 282]. والاستشهاد بالآيتين الكريمتين على أن لفظ (شهيد) يستعمل استعمال الأسماء فلا يحتاج إلى موصوف قبله ولذلك ساغ إضافة العدد إليه.
[33799]:تنوين: سقط من ب.
[33800]:تفسير ابن عطية 10/433.
[33801]:قال سيبويه: (هذا باب ما لا يحسن أن تضيف إليه الأسماء التي تبين بها العدد إذا جاوزت الاثنين إلى العشرة وذلك الوصف تقول: هؤلاء ثلاثة قرشيون، وثلاثة مسلمون، وثلاثة صالحون، فهذا وجه الكلام، كراهة أن تجعل الصفة كالاسم، إلا أن يضطر شاعر) الكتاب 3/66، فسيبويه يجيز تنوين العدد إذا كان المعدود صفة، وذلك في النثر، ولم ينص عليه إذا كان المعدود اسما. ويمكن حمل قول سيبويه: (إلا أن يضطر شاعر) إلى اضطرار الشاعر إلى التنوين في العدد إذا كان المعدود اسما، أو إضافة الصفة.
[33802]:انظر تفسير ابن عطية 10/433، البحر المحيط 6/432.
[33803]:المرجعان السابقان.
[33804]:في ب: الثاني.
[33805]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/116، تفسير ابن عطية 10/432، الكشاف 3/62، البحر المحيط 6/432، وجوز ابن عطية وأبو حيان أن تكون بدلا.
[33806]:في ب: الصفات. وهو تحريف.
[33807]:في ب: بعد. وهو تحريف.
[33808]:انظر الفخر الرازي 23/153.
[33809]:انظر الفخر الرازي 23/157.
[33810]:في ب: ما.
[33811]:وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة والثوري، والحسن بن صالح – رحمهم الله. انظر الفخر الرازي 23/153.
[33812]:انظر الفخر الرازي 23/153.
[33813]:في ب: وإن.
[33814]:في ب: حدا واحدا. وهو تحريف.
[33815]:ما بين القوسين سقط من ب.
[33816]:هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلام الأنصاري، الواقفي، شهد بدرا وأحدا، وكان قديم الإسلام، كان يكسر أصنام بني واقف، وكانت معه رايتهم يوم الفتح، وهو الذي لاعن امرأته بشريك بن سحماء. أسد الغابة 5/406.
[33817]:في ب: سمحاء وهو تحريف. وهو شريك بن سحماء وهي أمه، وأبو عبدة بن معتب بن الجد بن العجلان وهو ابن معن وعاصم ابني عدي بن الجد، وهو حليف الأنصار، وهو صاحب اللعان. أسد الغابة 2/22.
[33818]:في ب: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم.
[33819]:أخرجه البخاري (تفسير) 3/163، أبو داود (طلاق) 2/286، الترمذي (تفسير) 175 – 13 ابن ماجه (طلاق) 1/228.
[33820]:انظر الفخر الرازي 23/154 – 155.
[33821]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[33822]:أخرجه البخاري (حدود) 4/176، (طلاق) 3/272، أبو داود (حدود) 4/559 – 556 الترمذي (حدود) 2/438، ابن ماجه (طلاق) 1/658 – 659، الدارمي (حدود) 2/171، أحمد 6/100، 101، 144.
[33823]:انظر الفخر الرازي 23/156.
[33824]:وهو قول الإمام الشافعي، وعند الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. انظر الفخر الرازي 23/156.
[33825]:وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن. انظر الفخر الرازي 23/156.
[33826]:وهو قول الأوزاعي. انظر الفخر الرازي 23/156.
[33827]:انظر الفخر الرازي 23/157.
[33828]:في ب: المحذوف. وهو تحريف.
[33829]:في ب: يجب.
[33830]:في الأصل: معرفا.
[33831]:انظر الفخر الرازي 23/157.
[33832]:الكشاف 3/62، التبيان 2/964، البحر المحيط 6/432.
[33833]:التبيان 2/964.