قوله تعالى{[33634]} : { الزانية والزاني } في رفعهما{[33635]} وجهان :
مذهب سيبويه : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : فيما يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْم الزَّانِيَةِ ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله : «فَاجْلِدُوا » . . . إلى آخره {[33636]} .
والثاني وهو مذهب الأخفش وغيره : أنه مبتدأ ، والخبر جملة الأمر{[33637]} ، ودَخَلَتِ الفاءُ لشبه المبتدأ بالشرط ، ولكون{[33638]} الألف واللام بمعنى الذي{[33639]} ، تقديره : مَنْ زنا فاجلده ، أو التي{[33640]} زنت والذي زنا فاجلدوهما{[33641]} ، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا }{[33642]} [ النساء : 16 ] وعند قوله : «والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ »{[33643]} فأغْنَى عن إعادته {[33644]} .
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورُوَيْس{[33645]} بالنصب{[33646]} على الاشتغال{[33647]} .
قال الزمخشري : «وهو أحسن{[33648]} من ( سورةً أنزلناها ) لأجل الأمر »{[33649]} .
وقرئ : «والزَّان »{[33650]} بلا ياء{[33651]} .
ومعنى «فاجلدوا » : فاضربوا { كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ، يقال : جَلَدَه : إذا ضرب جِلْدَهُ ، كما يقال : رأسَه وبطنه : إذا ضرب رأسه وبطْنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح ، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم .
قوله ( تعالى ){[33652]} : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } : رحمة ورقة .
قرأ العامة هنا وفي الحديد{[33653]} بسكون همزة «رَأْفَة » . وابن كثير بفتحها {[33654]} .
وقرأ ابن جريج وتروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم «رَآفَة » بألف بعد الهمزة{[33655]} بِزِنَةِ «سَحَابَةٍ » . وكلها مصادر ل «رَأَفَ بِهِ يَرْؤُف » ، وتقدم معناه ، وأشهر المصادر الأول ، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة ، وهي إبدال الهمزة ألفاً{[33656]} ، وهذا ظاهر .
وقرأ العام «تَأْخُذْكُمْ » بتاء التأنيث مُرَاعاةً للفظ .
وعليُّ بن أبي طالب والسُّلميُّ ومجاهد بالياء من تحت{[33657]} ، لأنَّ التأنيث مجازيّ ، وللفصل{[33658]} بالمفعول والجار{[33659]} .
و «بِهِمَا » يتعلق ب «تَأْخُذْكُمْ » ، أو بمحذوف على سبيل البيان ، ولا يتعلق ب «رَأْفَة » لأن المصدر لا يتقدم{[33660]} عليه معمولاً ، و «دِينِ اللَّهِ » مُتعلِّقٌ بالفعل قبله أيضاً{[33661]} .
وهذه الجملة{[33662]} دالة على جواب{[33663]} الشرط بعدها{[33664]} ، أو{[33665]} هي الجواب عند بعضهم{[33666]} .
الزنا حرام ، وهو من الكبائر ، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله : «وَلاَ يَزْنُونَ »{[33667]} ، وقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى }{[33668]} [ الإسراء : 32 ] ، وقال عليه السلام{[33669]} : «يَا مَعْشَرَ الناس اتقوا الزِّنَا فإنَّ فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا : فيُذْهِبُ البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر . وأما اللاتي{[33670]} في الآخرة : فسُخْطُ الله ، وسوء الحساب ، وعذاب ( النار{[33671]} » ){[33672]} .
قال بعض العلماء في حدّ الزنا : إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً{[33673]} .
واختلف العلماء في اللواط ، هل يسمى زنا أم لا ؟
فقيل : نعم لقوله - عليه السلام{[33674]} - : «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان »{[33675]} ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم . وقيل : لا يسمى زنا ، لأنه في العرف لا يسمى زانياً ، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة .
وأما الحديث فمحمول على الإثم ( بدليل قوله - عليه السلام- ){[33676]} : «إذَا أَتَتِ المَرْأةُ المرأةَ فَهُمَا زَانِيتَان »{[33677]} ، وقوله عليه السلام{[33678]} : «اليَدَان تَزْنِيَان ، والعَيْنَان تَزْنِيَان »{[33679]} . وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد ، لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجاً ، وسمي النجم نجماً لظهوره ، وما سموا كل ظاهر نجماً ، وسموا الجنين جنيناً لاستتاره ، وما سمّوا كل مستتر جنيناً{[33680]} .
واختلفوا{[33681]} في حدّ اللوطي :
فقيل : حدّ الزنا ، إن كان محصناً رجم ، وإن كان غير محصن جلد وغرب{[33682]} .
وقيل : يقتل الفاعل والمفعول مطلقاً{[33683]} .
فقيل : تضرب رقبتُه كالمرتد لقوله عليه السلام{[33684]} : «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوه{[33685]} » .
وقيل : يرجم بالحجارة {[33686]} .
وقيل : يهدم عليه جدار{[33687]} .
وقيل : يرمي من شاهق ، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك{[33688]} .
وقيل : يعزّر الفاعل{[33689]} ، وأما المفعول فعليه القتل إن{[33690]} قلنا يقتل الفاعل ، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى المفعول جلد مائة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن .
وقيل : إن كانت امرأة{[33691]} محصنة فعليها الرجم{[33692]} .
وأجمعت الأمة على حرمة إتيان البهيمة ، واختلفوا في حدّه :
وقيل : يقتل مطلقاً{[33693]} لقوله عليه السلام{[33694]} : «مَنْ أَتَى بَهِيمةً فَاقْتُلوهُ واقْتُلُوهَا مَعَهُ » {[33695]} .
وقيل : التعزير{[33696]} ، وهو الصحيح {[33697]} .
وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير{[33698]} .
تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء{[33699]} ، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة . أما الإقرار ، فقال الشافعي : يثبت{[33700]} بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف{[33701]} .
وقال أبو حنيفة وأحمد : لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ماعز{[33702]} ، ولقوله عليه السلام{[33703]} : «إنَّكَ شَهدتَ على نفسِكَ أربعَ مرات » ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغواً ، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه - لماعز بعد إقراره الثالثة : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .
وقال بريدة الأسلمي{[33704]} : كنا معشر أصحاب محمد نقول : لو لم يقر ماعز ( أربع مرات ) {[33705]} ما رجمه رسول الله .
وأيضاً فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلاّ أربع شهادات ، فكذا في الإقرار . وكما أن الزنا لا ينتفي إلاّ بأربع شهادات في اللعان ، فلا يثبت إلا بالإقرار{[33706]} أربع مرات .
وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بُدّ من أربع شهادات لقوله تعالى{[33707]} : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ{[33708]} }{[33709]} [ النساء : 15 ] .
قال بعض العلماء{[33710]} : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه ، كما إذا ادعى رجل على آخر{[33711]} حقاً وأقام عليه بينة ، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه ، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيًّا بعد ذلك ، أو ادعى نكاح امرأة وقد{[33712]} سمعه القاضي طلقها ، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهوداً{[33713]} وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه ، أو سمع المدعى عليه يقرّ به ؟
فقال أبو يوسف ومحمد والمزني : يجوز له أن يقضي بعلمه ، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود ، وهي إنما تفيد الظن ، فلأن يجوز ( له ){[33714]} بما هو منه على علم أولى .
قال الشافعي : " أقْضِي بعلمي{[33715]} ، وهو أقوى من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو أقوى من شاهد ويمين ، ( وبشاهد ويمين ) {[33716]} وهو أقوى من ( النكول{[33717]} ){[33718]} وردّ اليمين »{[33719]} وقيل : لا يحكم بعلمه{[33720]} لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات ، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال ، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى ، وإلا فقولان .
والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية{[33721]} على المساهلة والمسامحة ، ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته ( وزمان ولايته ) {[33722]} أو في غيره{[33723]} . وقال أبو حنيفة : إن حصل له العلم في بلد ولايته ( وفي زمان ولايته ) {[33724]} له أن يقضي بعلمه وإلا فلا{[33725]} .
لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه السلام{[33726]} : «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدكم فَلْيَجلِدْها »{[33727]} وقيل : بل يرفعه إلى الإمام .
ويُجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد ، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه ، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها ، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ، ويلي ذلك منها{[33728]} امرأة{[33729]} . ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ولا يمد ، ولا يربط ، بل يترك حتى يتقي بيديه{[33730]} ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة ، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج .
قال الشافعي : يضرب على الرأس .
وقال أبو حنيفة : لا يضرب على الرأس{[33731]} .
ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها ، ويستغنى عنها لحديث الجهنية{[33732]} ، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ ( إن كان الحد جلداً ، وإن كان رجماً أقيم عليه الحدُّ ، لأن المقصود قتله ){[33733]} ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط ، بل يضرب بضغث{[33734]} فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب{[33735]} ( - عليه السلام{[33736]}- ){[33737]} وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه .
لو فرق السياط تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطاً{[33738]} أو سوطين لم يحسب ، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب{[33739]} .
ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء ، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا : إن كان الحدّ رجماً أقيم عليه كما يقام في المرض ، لأن المقصود قتله .
وقيل : إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض ( إنْ كان يرجى زوال ، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم ){[33740]} وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه .
وإن ثبت بالبينة لا يؤخر ، لأنه لا يسقط .
وإن كان الحد جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض{[33741]} .
معنى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } .
قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها{[33742]} .
وقيل : ولا تأخذكم رأفة فتخففوا ، ولكن أوجعوهما ضرباً . وهو قول سعيد بن المسيب والحسن{[33743]} .
قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والغربة ، ويخفف في حدّ الشرب {[33744]} .
وقال قتادة : يخفف في الشرب والغربة ، ويجتهد في الزنا{[33745]} .
ومعنى { فِي دِينِ الله } : أي : في حكم الله ، روي{[33746]} أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد : «اضْرُبْ ظَهْرَهَا ورِجْلَيْهَا » فقال له ابنه : «ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً في دِينِ اللَّهِ » فقال : «يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها ، وقد ضربت فأوجعت » {[33747]} .
إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع ( به{[33748]} ){[33749]} ، لأنّ ماعزاً لما مسته الحجارة هرب ، فقال عليه السلام{[33750]} : «هَلاَّ تركتموه »{[33751]} .
وقيل : لا يقبل رجوعه{[33752]} .
ويحفر للمرأة إلى صدرها ، ولا يحفر للرجل{[33753]} ، وإذا مات في الحدّ غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه ودفِن في مقابر المسلمين {[33754]} .
قوله : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } معناه : أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله .
قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } أي : وليحضر «عَذَابَهُمَا » : حدهما إذا أقيم عليهما «طَائِفَةٌ » نفر من المؤمنين . قال النخعي ومجاهد : أقله رجل واحد ، لقوله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا }{[33755]} [ الحجرات : 9 ] . وقال عطاء وعكرمة : اثنان ، لقوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ }{[33756]} [ التوبة : 122 ] وكل ثلاثة فرقة ، والخارج عن الثلاثة واحد أو{[33757]} اثنان ، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر . وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعداً ، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة .
وقال ابن عباس : «إنَّها أربعة ، عدد شهود الزنا » ، وهو قول مالك وابن زيد .
وقال الحسن البصري : عشرة ، لأنها العدد الكامل{[33758]} .
واعلم أن قوله : «وَلْيَشْهَد » أمر ، وظاهره{[33759]} للوجوب ، لكن الفقهاء قالوا : يستحب حضور الجمع ، والمقصود منه{[33760]} : إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة .
وقيل : أراد بالطائفة الشهود يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة{[33761]} .
وقال الشافعي ومالك : يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر ، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور . وقال أبو حنيفة : «إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ، ثم الإمام ، ثم الناس ، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس » .
واحتج الشافعي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية ولم يحضر رجمهما{[33762]} وأما تسميته عذاباً فإنه يدل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة ، كما يسمى نكالاً لذلك {[33763]} .