وقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً ، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط ؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ{[33834]} ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل{[33835]} المتقدمة{[33836]} والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة {[33837]} .
وقال الزمخشري : رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة - رحمه الله - باستيفاء الحدِّ ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته ، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء .
وعند الشافعي - رحمه الله - يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع{[33838]} عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية ، فأبو حنيفة - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ : الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد ، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدَّة حياتهم ، وجعل قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من «الفَاسِقِينَ » ، ويدلُّ عليه قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والشافعيُّ - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً ، وهي تنتهي بالتوبة ( والرجوع ) {[33839]} عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية{[33840]} . انتهى .
واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم ، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء{[33841]} .
والثاني : أنه مجرور بدلاً من الضمير في «لَهُمْ » {[33842]} .
وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده - أي : الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من «هُمْ »{[33843]} في «لَهُمْ » ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً ، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ ، وفسِّقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين{[33844]} .
قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها {[33845]} .
والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }{[33846]} .
وأُجيبَ بأنه محذوف ، أي : غفور لهم {[33847]} .
واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء ، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً {[33848]} .
الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا {[33849]} .
إذا شهدوا على فعل الزنا يجب{[33850]} أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا .
ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المُكْحُلة ، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنساناً وقال : «زنيتَ » يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف {[33851]} .
لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين {[33852]} .
وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف .
وحجة الأول{[33853]} : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين . وأيضاً فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ، وأيضاً فإنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدَّم واحداً بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد{[33854]} بعد واحد .
واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية{[33855]} ، أقصى ما في الباب أنهم{[33856]} عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأساً ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده .
وأيضاً فإن المغيرة بن شعبة{[33857]} شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو بكرة{[33858]} ، وشبل بن معبد{[33859]} ، ونافع{[33860]} ، ونفيع{[33861]} ، قال زياد{[33862]} : وقال رابعهم : رأيت استاً تنبو ، ونفساً يعلو ، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل معهم شاهد آخر ؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه {[33863]} .
لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود ؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفاً {[33864]} .
وقيل : لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا{[33865]} لو حَدَدْنَا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد {[33866]} .
لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا :
قال أبو حنيفة : يسقط الحد عن القاذف ، ولا يجب الحد على الشهود .
وقال الشافعي في أحد قوليه : يُحَدُّون .
واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة .
واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة{[33867]} .
قوله : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك{[33868]} ، أو لرجل صالح إذا فُقِد الإمام{[33869]} . ويخص من هذا العموم صور :
الأولى : الوالد إذا قذف ولده ( أو ولد ولده ) {[33870]} وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله .
الثانية : القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ، فقيل : كالرقيق . وقيل : بالحساب .
الثالثة : من قذف رقيقه ، أو من زنت قديماً ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها{[33871]} .
فصل{[33872]}
قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض{[33873]} .
قال مالك والشافعي : حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه .
وقيل : لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد . وعند أبي حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت .
حجة الشافعي : أنه حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام{[33874]} : «مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلورثَتِهِ »{[33875]} .
وحجة أبي حنيفة : لو كان{[33876]} موروثاً لورثة الزوج والزوجة : ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة .
وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت ، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة {[33877]} .
إذا قذف إنساناً بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب ، فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيساً ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك {[33878]} .
قوله : { ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } .
قال أكثر الصحابة والتابعين : إذا تاب قُبِلَتْ شهادته وهو قول الشافعي .
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح{[33879]} : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب{[33880]} . وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة{[33881]} ؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء : فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } .
وقالوا : الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار{[33882]} والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك والشافعي . وذهب قوم إلى أن شهادة{[33883]} المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } وهو قول النخعي وشريح{[33884]} وأصحاب الرأي .
وقالوا : بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد .
قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد ، لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته .
وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة .
وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الكل .
وعامة العلماء{[33885]} على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة .
فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : «أبَداً »{[33886]} ؟
قيل : معناه : لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصرًّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ، يراد : ما دام كافراً {[33887]} .
اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف :
فقيل : التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله .
وقيل : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقاً ، فيكون قوله : «كذبت » كذباً ، والكذب معصية ، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه{[33888]} . ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنِّين{[33889]} ، وقد علق الشرع أحكاماً بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما{[33890]} ، وهذا معنى قوله : «وَأَصْلَحُوا »{[33891]} ، ثم قال : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يقبل التوبة .