لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات .
قال ابن عباس{[33892]} : لما نزل قوله{[33893]} : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } [ النور : 4 ] قال عاصم بن عدي الأنصاري{[33894]} : «إنْ دخل رجلٌ منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت عن غيظ ، اللهم افتح . وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له : عُوَيْمِر{[33895]} ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصماً فقال : لقد رأيت شريك بن سَحماء{[33896]} على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وما ذاك » ؟ فقال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم جميعاً ، فقال لعويمر : «اتقِ اللَّهَ في زوجتكِ وابنة عمك ، ولا{[33897]} تقذفها » فقال : يا رسول الله ، تالله{[33898]} لقد رأيت شريكاً على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غَيري . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اتّقي اللَّهَ ولا تخبرِي إلا بما صنعتِ » فقالت : يا رسول الله ، إن عويمر رجلٌ غيور ، وإنه رأى شريكاً يطيل النظر ويتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) {[33899]} بأن يؤذَّن : الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعُوَيْمِر : قم وقل : أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية : أشهد أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة : أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمنَ الصادقين ، ثم قال في الرابعة قل{[33900]} أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عُوَيْمِر ( يعني : نفسه ) إن كان من الكاذبين . ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومي ، فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : أشهد بالله ما أنا حُبْلى منه وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الرابعة : أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين ، وقالت{[33901]} في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عُوَيْمر من الصادقين في قوله ، ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما {[33902]} .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء{[33903]} ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «البينة وإلا حدٌّ في ظهرك » . فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : «البينَةُ وإلاَّ حَدٌّ في ظهْرِك » . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزيل جبريل - عليه السلام{[33904]} - وأنزل عليه : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فقرأ حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ الصادقين } فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ » ؟ . ثم قامت فشهدت ، فلما كانت{[33905]} عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة{[33906]} .
قال ابن عباس : فتلكأت{[33907]} ونكصت{[33908]} حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، حدلج الساقين{[33909]} فهو لشريك بن سحماء . فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لَوْلاَ مَا مَضَى من كتابِ الله - عزَّ وجلَّ - لكانَ لِي ولَهَا شَأْن »{[33910]} .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . . } [ النور : 4 ] الآية قال سعد بن عبادة{[33911]} : لو أتيت لَكَاع{[33912]} وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، أَلاَ تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ » .
قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها . قال سعد : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، فقال عليه السلام{[33913]} : «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْبَى إِلاَّ ذلك » . فقال : صدق{[33914]} الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له : هلال بن أمية ( من حديقة له ){[33915]} ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فرأى رجلاً مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاءً فوجدتُ رجلاً مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق ، وما قلت إلا حقاً ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً ، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، يُجْلَد هلال وتبطل شهادته ، فإنهم لكذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ . . . إلى آخر الآيات } . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أبشر يا هلال ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرجاً » . فقال : كنت أرجو ذلك من الله - عزَّ وجلَّ - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أرسلوا إلَيْها » فجاءت فكذبت هلال . فقال عليه السلام{[33916]} : «اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُما كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ » ؟ وأمر بالملاعنة ، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال عليه السلام{[33917]} له عند الخامسة : «اتَّقِ اللَّهَ يَا هلالُ ، فإنَّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة » . فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله ، وشهد الخامسة : أنَّ لعنةَ الله إِنْ كَانَ مِنَ الكاذِبين . ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " أتشهدين " ؟ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها{[33918]} : «اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس » . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كانَ من الصَّادقين . ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ فِيهِ » . فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق{[33919]} ، على التشبيه المكروه ، وكان بعد أميراً بمصر ولا يدرى من أبوه{[33920]} .
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن لم تكن محصنة ، كما في رمي الأجنبي ، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف ، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا .
وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان .
وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات ، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية ، والأولى له سترة . وأما في الزوجة فيلحقه{[33921]} العار والنسب الفاسد ، فلا يمكنه الصبر عليه {[33922]} .
إذا قذف زوجته ونكل{[33923]} عن اللعان لزمه{[33924]} حد القذف ، فإذا لاَعَن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا{[33925]} . وقال أبو حنيفة : يجلس الناكل منهما حتى يلاعن .
حجة القول الأول : قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً }{[33926]} [ النور : 4 ] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ . . . } الآية ؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد .