اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (3)

قرأ أبو البرهسيم{[33764]} «وَحَرَّم » مبنياً للفاعل مشدداً{[33765]} . وزيد بن علي{[33766]} «حَرُم » بزنة كَرم{[33767]} . واختلفوا في معنى الآية وحكمها :

فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس : «قَدِمَ المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهُنَّ يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية » وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا ، لأنهنَّ كنَّ مشركات {[33768]} .

وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة{[33769]} والمدينة ، منهن تسع لهن رايات البيطار{[33770]} يعرفن بها منزلهن : أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي{[33771]} ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد{[33772]} ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح «أمِّ مهزول » واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله{[33773]} هذه الآية{[33774]} .

فإن قيل : قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } ظاهره خبر وليس الأمر كذلك ، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية{[33775]} قد ينكحها المؤمن العفيف ، وأيضاً فقوله : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } ليس كذلك ، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية .

فالجواب من وجوه :

أحدها - وهو أحسنها - : ما قاله القفال : إن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب ، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة ، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح ، بل تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم الأغلب ، كما يقال «لا يفعَل الخيرَ إلاّ الرجلُ التقيُّ » وقد يفعل الخيرَ من ليس بتقي ، فكذا هاهنا .

وأما قوله : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } فالجواب من وجهين :

الأول : أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء المقالة فيه ، والغيبة ، ومجالسة الخطائين{[33776]} فيها التعرض لاقتراف الآثام{[33777]} ، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار .

وثانيها : أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني{[33778]} وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين ، لأن قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } معناه : أنَّ الزاني لا يرغب إلا في زانية ، فهذا محرم على المؤمنين ، ولا يلزم{[33779]} من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية ، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية .

الوجه الثاني : أن الألف واللام في قوله : «الزَّاني » وفي قوله : «المُؤْمِنينَ » وإن كان للعموم ظاهراً لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفاً .

الوجه الثالث : أن قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي ، والمعنى : كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية ، { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام .

وعلى هذا الوجه ذكروا قولين :

أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود .

ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها .

ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة .

والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخاً . واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء }{[33780]} [ النساء : 3 ] ، { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ }{[33781]} [ النور : 32 ] .

قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح ؟

وأما قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء } [ النساء : 3 ] فلا يصلح أن يكون ناسخاً ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما {[33782]} .

ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ، وأن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره{[33783]} ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه ؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش ، ففارق غيره .

واحتج من ادعى النسخ بأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس » ، قال : «طَلِّقْهَا » . قال : «إني أحبها ، وهي جميلة » ، قال : «استمتع بها » وفي رواية : «فأمسكها إذن » {[33784]} .

وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام . وبأن ابن عباس سُئِل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها ؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه .

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئِل عن ذلك فقال : «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نِكاح ، والحرامُ لا يُحَرِّمُ الحلال » .

الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة ، وكذا الزانية { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي{[33785]} عن ابن عباس{[33786]} .

قال الزجاج : «وهذا التأويل فاسد من وجهين :

الأول : أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزوج ، ولم يرد البتة بمعنى الوطء .

الثاني : أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة ، لأنا لو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد ، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ، ولو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا ، فهذا كلام لا فائدة فيه » {[33787]} .

فإن قيل : أي فرق بين قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } وبين قوله : { الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ } ؟

فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية ، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني ، فلا جرم بيَّن ذلك بالكلام الثاني {[33788]} .

فإن قيل : لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا{[33789]} بالعكس ؟

فالجواب : سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها ، فالمرأة هي المادة في الزنا ، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجال أصل فيه ، لأنه هو الراغب الطالب {[33790]} .


[33764]:هو عمران بن عثمان أبو البرهسيم الزبيدي الشامي صاحب القراءة الشاذة، روى الحروف عنه شريح بن يزيد. طبقات القراء 1/604 – 605.
[33765]:الكشاف 3/62، البحر المحيط 6/431.
[33766]:تقدم.
[33767]:البحر المحيط 6/431.
[33768]:انظر الفخر الرازي 23/151.
[33769]:في ب: مكة.
[33770]:أي: كرايات معالج الدواب.
[33771]:هو السائب بن صفي بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشي المخزومي، قال ابن عباس: إن السائب بن أبي السائب ممن هاجر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وأعطاه من غنائم حنين، وهو من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامهم منهم. أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 1/93.
[33772]:في ب: وأراد.
[33773]:في ب: الله تعالى.
[33774]:انظر أسباب النزول للواحدي (333).
[33775]:في ب: فالزانية.
[33776]:في ب: الخطابين. وهو تحريف.
[33777]:في ب: الأيام. وهو تحريف.
[33778]:في ب: أو.
[33779]:في الأصل: ويلزم.
[33780]:[النساء: 3].
[33781]:[النور: 32].
[33782]:في ب: أو غيرها. وهو تحريف.
[33783]:في ب: في غيره.
[33784]:أخرجه أبو داود (نكاح) 2/541 – 542، النسائي (نكاح) 6/67، (طلاق) 6/17.
[33785]:هو علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي، أبو المغيرة الكوفي، أخذ عن علي وسلمان وأخذ عنه الحكم وأبو إسحاق. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/248.
[33786]:انظر الفخر الرازي 23/ 150-152.
[33787]:انظر معاني القرآن وإعرابه 4/29 – 30.
[33788]:انظر الفخر الرازي 23/152.
[33789]:في ب: وهنا.
[33790]:انظر الفخر الرازي 23/152.