قوله تعالى : { إِنَّ الذين جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } الآية .
أحدهما : أنه عصبةٌ و «مِنْكُمْ » صفته . قال أبو البقاء : «وبه أفاد الخبر »{[34015]} .
والثاني : أن الخبر الجملة من قوله : «لاَ تَحْسَبُوهُ » ، ويكون «عُصْبَةٌ » ، بدلاً من فاعل «جَاءوا » . قال ابن عطية : التقدير : إنَّ فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون «عُصْبَةٌ » خبر ( إِنَّ ) {[34016]} . كذا أورده عنه أبو حيان{[34017]} غير معترض عليه ؛ والاعتراض{[34018]} عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر «إِنَّ » جملة طلبية ، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد{[34019]} منه شيء في الشعر أُوِّلَ{[34020]} كالبيتين المتقدمين{[34021]} . وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي ، إذ لو لم يقدر لكان التركيب «لاَ تَحْسَبُوهُمْ »{[34022]} .
ولا يعود الضمير في «لا تَحْسَبُوهُ » على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ {[34023]} .
وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك ، أو على القذف ، أو على المصدر المفهوم من «جَاءُوا » ، أو على ما نال المسلمين من الغم {[34024]} .
سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص{[34025]} وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود{[34026]} كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج بها سهمي ، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج{[34027]} فسِرْنَا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل{[34028]} دنونا من المدينة قافلين نزل منزلاً ثم آذَنَ{[34029]} بالرحيل ، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي{[34030]} من جزع{[34031]} ظَفَار{[34032]} وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط{[34033]} الذين كانوا يرحلون بي{[34034]} فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي ، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهْبَّلْنَ{[34035]} ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقَة{[34036]} من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة{[34037]} السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّت{[34038]} الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي{[34039]} الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني{[34040]} من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه{[34041]} حين عرفني ، فخمرت وجهي{[34042]} بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش موغرين{[34043]} في نحر الظهيرة{[34044]} وهم نزول ، وافتقدني الناس حين نزلوا ، وماج الناس{[34045]} في ذكري ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي . قالت : فَهَلَك مَنْ هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ ابن سَلولٍ{[34046]} . قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن أُثاثة{[34047]} ، وحمنة بنت جحش{[34048]} . في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزَّ وجلَّ . قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يُسَب عندها حسان وتقول : إنه هو الذي قال :
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي *** لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ{[34049]}
قالت عائشة : وقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) {[34050]} المدينة ، ولم أر فيه - عليه السلام{[34051]} - ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، فاشتكيت حتى قدمت شهراً ، وهو يريبني{[34052]} في وجعي أنَّي لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف{[34053]} الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول : «كيف تيكُمْ »{[34054]} ؟ ثم ينصرف ، فذلك يَريبُني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت{[34055]} ، فخرجت مع أم مِسْطَح{[34056]} قِبَلَ المناصع{[34057]} وكان متبرَّزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى الليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف{[34058]} قريباً من بيوتنا قالت : فانطلقت أنا وأم مِسْطَح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف . وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وابنُها مِسْطَح بن أُثَاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مِسْطَح في مرطها{[34059]} ، فقالت : تعس{[34060]} مِسْطَح . فقلت لها : بئس ما قلت ، أَتَسُبِّين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه{[34061]} ، أو لم تسمعي ما قال ؟ فقلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، وقالت : أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات . فازددتُ مرضاً على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : «كيف تِيكُمْ » ؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أَبَوَيّ ؟ قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي : يا أماه ، ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية ، هَوِّني عليك ، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة{[34062]} عند رجل يحبها ولها ضراء{[34063]} إلا كَثَّرنَ عليها{[34064]} .
فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بها ؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي{[34065]} دمع ، ولا أكتحل بنوم{[34066]} ، فدخل عليَّ أبي وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم{[34067]} تكن علمت ما قيل فيها ، فأقبل يبكي . قالت : ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد{[34068]} حين استلبث{[34069]} الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، فقال أسامة : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيراً . وأما عليّ فقال : لم يضيِّق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تَصْدُقكَ ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم بَرِيرَة ، فقال : «هَلْ رأيتِ من شيء يُريبُك » ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبياً ما رأيت عليها أمراً قط أغضه{[34070]} أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن{[34071]} فتأكله . قالت : فقام نبي الله خطيباً على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرُني{[34072]} من رجل قد بلغ أذاه في أهلي - يعني : عبد الله بن أُبيّ - فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ{[34073]} أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعْذِرُك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ، ولكن أخذته الحمية ، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله لا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حُضَير{[34074]} ، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتله ، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا . قالت : فبكيتُ يَوْمِي ذلك كله وليلتي لا يَرْقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوماً{[34075]} حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق{[34076]} كبدي ، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فِيَّ ما قيل ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال : أمَّا بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنبٍ{[34077]} فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلمَّا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي{[34078]} حتى ما أحسُّ منه قطرة ، ( فقلت ) {[34079]} لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال . فقال : والله ما أردي ما أقول لرسول الله . فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت وأنا جارية حديثة السِّن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ }{[34080]} [ يوسف : 18 ] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى ، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأَمْرٍ ، ولكني كنت أرجو أن يرى{[34081]} رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء{[34082]} عند الوحي حتى إنه ليتحدر{[34083]} فيه العرق مثل الجمان{[34084]} في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه . قالت : فسري{[34085]} عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : «يا عائشة ، أما الله قد برأك » قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : فوالله لا أقوم إليه ، فإني لا أحمد إلا الله . قالت : وأنزل الله { إِنَّ الذين جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ . . } العشر آيات . فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مِسْطَح بعدها ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، فأنزل الله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة . . . } [ النور : 22 ] إلى قوله : «غَفُورٌ رَحِيمٌ » . فلما سمع أبو بكر قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ }{[34086]} [ النور : 22 ] قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فرجع إلى النفقة على مِسْطح وقال : والله لا أنزعها منه أبداً . قال : فلما نزل عُذْري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب عبد الله بن أُبيِّ ومِسْطَح وحسَّان وحَمنَة الحد {[34087]} .
الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب . وسمي{[34088]} إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم{[34089]} : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه . قيل : هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة {[34090]} .
وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكاً لكون المعروف من حال عائشة خلافه ، وذلك من وجوه :
الأول : أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم ، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم ، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات .
فإن قيل : كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة ؟ وأيضاً فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة ؟
فالجواب عن الأول : أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجور فإنه من المنفرات .
والجواب عن الثاني : أنه عليه السلام{[34091]} كثيراً ما يكون{[34092]} يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ }{[34093]} [ الحجر : 97 ] فهذا من ذاك الباب .
الثاني : أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به .
الثالث : أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم ، وكلام المفتري ضرب من الهذيان{[34094]} . فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي{[34095]} .
العُصْبَةُ : قيل : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العِصَابَة{[34096]} ، وهم عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم {[34097]} .
قوله : «كِبْرَهُ » العامة على كسر الكاف .
وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعَمْرة بنت عبد الرحمن{[34098]} . ورويت أيضاً عن أبي{[34099]} عمرو والكسائي {[34100]} .
فقيل : هما لغتان في مصدر : كبر الشيء ، أي : عظم ، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم{[34101]} في السن والمكانة{[34102]} ، يقال : هو كُبر القوم بالضم ، أي : أكبرهم سناً أو مكانة{[34103]} ، وفي الحديث قصة مُحَيْصَة وحويصة : «الكُبْرَ الكُبْرَ »{[34104]} .
وقيل : بالضم : معظم الإفك . وبالكسر : البداءة . وقيل : بالكسر : الإثم{[34105]} .
قوله : «مِنْكُم » معناه : إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون ، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً {[34106]} .
قوله : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين .
والثاني : أن المقذوفين هم عائشة وصفوان ، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله : { لاَ تَحْسبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } ؟
فالجواب عن الأول : أنه تقدم ذكرهم في قوله : «مِنْكُمْ » .
وعن الثاني : أن المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به{[34107]} .
فإن قيل : فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مَضَرّة ؟
أحدها : أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين .
وثانيها : لولا إظهار الإفك كان يجوز أن يبقى الهَمُّ كامِنٌ في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف كذب القوم .
وثالثها : صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل .
ورابعها : صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافراً قطعاً ، وهذه درجة عالية{[34108]} .
وقال بعضهم : قوله تعالى : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } خطاب مع القاذفين وجعل الله خيراً لهم من{[34109]} حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب بعضهم عنده . وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله : { لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض{[34110]} .
قوله : { والذي تولى كِبْرَهُ } . أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن ( أبيّ ابن ) {[34111]} سلول . والعذاب العظيم هو النار في الآخرة .
روي عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكان عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة . قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها . وشرع في ذلك أيضاً حسان بن ثابت ، ومِسْطَح ، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا{[34112]} كِبْرَه . والأقرب أنه عبد الله بن أُبيّ ، فإنه كان منافقاً يطلب ما يقدح في ( الرسول ){[34113]} {[34114]} .
قال مسروق{[34115]} : دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له وقال :
حَصَانٌ{[34116]} رَزَانٌ ما تُزَنُّ{[34117]} بِرِيبَةٍ *** وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ ( الغَوَافِلِ{[34118]} ){[34119]}
فقالت له عائشة : «لكنك لست كذلك » .
قال مسروق : فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت : «وأيُّ عذابٍ أشد من العمى »{[34120]} .
وروي أن عائشة ذكرت حسان وقالت : «أَرْجُو لَهُ الجنةَ » . فقيل : أليس هو الذي تولى كبره ؟ فقالت : «إذا سَمِعْتُ شِعْرَهُ في مدحِ الرسولِ رَجَوْتُ لَهُ الجَنَّةَ »{[34121]} وقال عليه السلام{[34122]} : «إِنَّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره »{[34123]} .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً {[34124]} .
المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئاَ بذلك القول ، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من قال ذلك ، لقوله عليه السلام{[34125]} : «من سنَّ سُنّة سيئةً فعليه{[34126]} وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » {[34127]} .
وقال أبو مسلم : «سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة »{[34128]} .