اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النور

مدنية{[1]} وهي أربع وستون آية ، وألف وثلاثمائة{[2]} وست عشرة كلمة ، وخمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا .

بسم الله الرحمن الرحيم{[33592]}

( قوله تعالى{[33593]} ) : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } الآية .

قرأ العامة «سُورَةٌ » بالرفع ، وفيه{[33594]} وجهان :

أحدهما : أن تكون مبتدأ ، والجملة بعدها صفة لها ، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداء بالنكرة ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما : أنه الجملة من قوله : «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي » .

( وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال : ويجوز أن تكون مبتدأ ، والخبر «الزَّانِيَةُ والزّانِي » ){[33595]} وما بعد ذلك . والمعنى : السورةُ المُنَزَّلةُ والمفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مَسْرُودَة لها بدْءٌ وخَتْمٌ {[33596]} .

والثاني : أن الخبر محذوف ، أي : فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ ، أو فيما أنزلنا سورة{[33597]} .

والوجه الثاني من الوجهين الأولين : أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : هذه ( سورة{[33598]} ){[33599]} .

وقال أبو البقاء : ( سورة ) بالرفع على تقدير : هذه سورةٌ ، أو فيما يتلى عليك{[33600]} سورة ، فلا تكون ( سورة ) مبتدأ ، لأنها نكرة {[33601]} .

وهذه عبارة مشكلةٌ على ظاهرها ، كيف يقول : «لا تكون مبتدأ » مع تقديره : فيما يُتلى عليك سورةُ ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جاراً مقدماً عليها ، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة ؟ وقرأ عمر{[33602]} بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف «سُورَةً » بالنصب{[33603]} ، وفيها{[33604]} أوجه :

أحدها : أنها منصوبة بفعل مُقَدَّر غير مُفَسَّرٍ بما بعده ، تقديره : «اتْلُ سُورَةً » أو «اقرأ سورة »{[33605]} .

والثاني : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده ، والمسألة من الاشتغال ، تقديره : «أنزلنا سورةً ( أنزلناها{[33606]} » ){[33607]} .

والفرق بين الوجهين : أنَّ الجملة بعد «سُورَةً » في محل نصب على الأول ، ولا محل لها على الثاني{[33608]} .

الثالث : أنها منصوبة على الإغراء ، أي : دونك سورةً ، قاله الزمخشري{[33609]} . ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء{[33610]} . واستشكل أبو حيان أيضاً على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ{[33611]} ، ومعنى ذلك أنه ما مِنْ موضع يجوز ( فيه ){[33612]} النصب على الاشتغال إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداء ، وهنا لو رفعت «سُورَةً » بالابتداء لم يَجُزْ ، إذ لا مسوغ ، فلا يقال : «رجلاً{[33613]} ضربتُه » لامتناع «رجل ضربتُه » ، ثم أجاب بأنه إن اعْتُقِدَ حذف وصفٍ جاز ، أي : «سُورة مُعَظَّمةً{[33614]} أو مُوَضّحَةً أنزلناها » فيجوز ذلك{[33615]} .

الرابع : أنها منصوبة على الحال من «ها » في «أَنْزَلْنَاهَا » ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه ، قاله الفراء{[33616]} .

وعلى هذا فالضمير في «أَنْزَلْنَاهَا » ليس عائداً على «سُورَةً » بل على الأحكام ، كأنه قيل : أنزلنا الأحكام سورةً من سُوَر القرآن ، فهذه الأحكام ثابتةٌ بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسُّنّة{[33617]} ، وتقدم معنى الإنزال .

قوله{[33618]} : «وفرضناها » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد{[33619]} . والباقون بالتخفيف {[33620]} .

فالتشديد إمَّا للمبالغة في الإيجاب وتوكيد ، وإمَّا المَفْرُوض عليهم ، وإمَّا لتكثير الشيء المفروض . والتخفيف بمعنى : أَوْجَبْنَاهَا وجعلناها مقطوعاً بها . وقيل : ألزمناكم العمل بها وقيل : قدرنا ما فيها من الحدود .

والفرض : التقدير ، قال الله ( تعالى ){[33621]} : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }{[33622]} [ البقرة : 237 ] أي : قدرتم ، { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن }{[33623]} [ القصص : 85 ] . ثم إنَّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود ، وتحصيل الحاصل محال ، فوجب أن يكون المراد : فرضنا ما بيِّن فيها من الأحكام{[33624]} ، ثم قال : { وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ{[33625]} بَيِّنَاتٍ } واضحات . «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » تتعظون ، وأراد ب «الآيَات » ما ذكر في السورة من الأحكام والحدود ودلائل التوحيد .

وقرئ «تَذَكَّرُونَ » بتشديد الذال وتخفيفها{[33626]} . وتقدم معنى «لَعَلَّ » في سورة البقرة{[33627]} .

قال القاضي : «لَعَلّ » بمعنى «كَيْ »{[33628]} .

فإن قيل : الإنزال يكون من صعود إلى نزول ، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة ؟

فالجواب : أن جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها{[33629]} على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل : «أنْزَلْنَاهَا » توسعاً .

وقيل : إن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة ، ثم أنزلها بعد ذلك على لسان جبريل - عليه السلام{[33630]} .

وقيل : معنى «أنزلناها » : أعطيناها الرسول ، كما يقول العبد إذا كلم{[33631]} سيّده : رفعت إليه حاجتي ، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال ، قال الله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه{[33632]} }{[33633]} [ فاطر : 10 ] .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[33592]:في ب: تفسير سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم.
[33593]:ما بين القوسين سقط من ب.
[33594]:في ب: وفيها.
[33595]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[33596]:تفسير ابن عطية 10/414.
[33597]:الكشاف 3/59.
[33598]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/115، الكشاف 3/59، البيان 2/913.
[33599]:ما بين القوسين في ب: السورة.
[33600]:في ب: عليكم.
[33601]:التبيان 2/913.
[33602]:في النسختين: الحسن. والصواب ما أثبته.
[33603]:المختصر (100)، والمحتسب 2/99.
[33604]:في ب: وفيه.
[33605]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/116، المحتسب 2/99 – 100، الكشاف 3/59، التبيان 2/963.
[33606]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/115، المحتسب 2/99، الكشاف 3/59، البيان 2/191، التبيان 2/963.
[33607]:ما بين القوسين سقط من ب.
[33608]:لأن الجملة في الوجه الأول صفة لـ "سورة" تابعة لها في إعرابها، وفي الوجه الثاني مفسرة، والجملة المفسرة لا محل لها من الإعراب. انظر المحتسب 2/100.
[33609]:انظر الكشاف 3/59.
[33610]:انظر البحر المحيط 6/427.
[33611]:فيه: تكملة ليست في المخطوط.
[33612]:فيه: تكملة ليست في المخطوط.
[33613]:في ب: رجل. وهو تحريف.
[33614]:في ب: عظيمة.
[33615]:البحر المحيط 6/427.
[33616]:معاني القرآن 244.
[33617]:في ب: بالنسبة. وهو تحريف.
[33618]:قوله: سقط من ب.
[33619]:في ب: بالتشد.
[33620]:السبعة (452)، الحجة لابن خالويه (259)، الكشف 2/133، النشر 2/330، الإتحاف 322.
[33621]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[33622]:من قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237].
[33623]:[القصص: 85].
[33624]:الفخر الرازي 23/130.
[33625]:آيات: سقط من ب.
[33626]:الكشاف 3/59.
[33627]:عند قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 21].
[33628]:انظر الفخر الرازي 13/131.
[33629]:في ب: ينزل بها.
[33630]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[33631]:في ب: كلمة. وهو تحريف.
[33632]:[فاطر: 10].
[33633]:انظر الفخر الرازي 23/130.