اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَفَرَرۡتُ مِنكُمۡ لَمَّا خِفۡتُكُمۡ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكۡمٗا وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (21)

قوله : { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } . العامة على تشديد ميم{[36995]} «لَمَّا » وهي «لَمَّا » التي هي حرف وجوب عند سيبويه{[36996]} . أو بمعنى «حِينَ » عند الفارسي{[36997]} . وروي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم{[36998]} ، أي : لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ ، و «ما » مصدرية . وهذه القراءة تشبه قراءته في «آل عمران » : { لِمَا آتَيْتُكُم }{[36999]} [ آل عمران : 81 ] . وقد تقدمت مستوفاة .

( قال الزمخشري : إنما جمع الضمير في «مِنْكُمْ » و «خِفْتُكُمْ » مع إفراده في «تَمُنُّهَا »{[37000]} و «عَبَّدْتَ »{[37001]} ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] ، وأما الامتنان والتعبد فمنه{[37002]} وحده ){[37003]} .

فصل :

والمعنى : إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً ، وكان مني في حكم السهو ، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفعلة ، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب{[37004]} .

فصل :

وقد ورد لفظ «الفرار » على أربعة :

الأول : بمعنى الهرب ، كهذه الآية ، ومثله { لَنْ{[37005]} يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِنَ الموت }{[37006]} .

الثاني : بمعنى الكراهية ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ{[37007]} مِنْهُ } [ الجمعة : 8 ] أي : تكرهونه .

الثالث : بمعنى اشتغال المرء بنفسه ، قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 - 35 ] أي : لا يلتفت إليهم ، لاشتغاله بنفسه .

الرابع : بمعنى التباعد ، قال تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعائي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] أي : تباعداً . ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار{[37008]} ، فكأنه قال : أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً{[37009]} . قرأ عيسى : «حُكُماً » بضم الكاف{[37010]} إتباعاً . والمراد بالحكم : العلم والفهم ، قاله مقاتل : وقيل : النبوة . والأول أقرب ، لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، والنبوة مفهومة من قوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين }{[37011]} .


[36995]:في ب: تشديدهم.
[36996]:قال سيبويه: (وأما "لما" فهي للأمر الذي وقع لوقوع غيره، وإنما تجيء بمنزلة لو، لما ذكرنا، فإنما هما لابتداء وجواب) الكتاب 4/234.
[36997]:قال أبو علي الفارسي: (وأما "لما" فمثل (لم) في الجزم، قال تعالى {ولما يعلم الله الذين جاهدوا} [آل عمران: 142]، [التوبة: 16] فجزمت كما جزمت لم، وإنما هي (لم) دخلت عليها (ما) فتغيرت بدخول (ما) عن حال (لم) فوقع بعدها مثال الماضي في قولك: لما جئت جئت، فصار بمنزلة ظرف من الزمان كأنك قلت: حين جئت جئت، فمن ثم جاز أن تقول: جئتك ولما، فلا تتبعها شيئاً ولا يجوز ذلك في (لم)، ولولا دخول (ما) عليها لم يجز ذلك فيها) انظر المقتصد شرح الإيضاح 2/1091-1092.
[36998]:المختصر (106)، البحر المحيط 7/11، الإتحاف (331).
[36999]:[أل عمران: 81].
[37000]:من الآية التي بعدها.
[37001]:من الآية التي بعدها.
[37002]:الكشاف 3/111.
[37003]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[37004]:انظر الفخر الرازي 24/126.
[37005]:في الأصل: ولن، وفي ب: فلن.
[37006]:في ب: ".... من الموت أو القتل".
[37007]:في الأصل: تفكرون. وهو تحريف.
[37008]:في ب: إتباعاً بعد الفرار.
[37009]:انظر الفخر الرازي 24/126.
[37010]:المختصر (106)، تفسير ابن عطية 11/99، البحر المحيط 7/11.
[37011]:انظر الفخر الرازي 24/126.