اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (22)

قوله : «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر{[37012]} على سبيل التهكم ، أي : إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك{[37013]} . وقيل : «ثَمَّ »{[37014]} حرف استفهام محذوف لفهم المعنى ، أي : «أَوَ تِلْكَ » ، وهذا مذهب الأخفش{[37015]} ، وجعل من ذلك :

3898 - أَفْرَحُ إن أُرْزَأَ الكِرَامَ{[37016]} *** . . .

وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله : { وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ }{[37017]} [ النساء : 79 ] وفي غيره .

قوله : «أَنْ عَبَّدْتَ » فيه أوجه :

أحدها : أنه في محل رفع عطف بيان ل «تِلْكَ »{[37018]} كقوله : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] .

الثاني : أنها في محل نصب مفعولاً من أجله{[37019]} .

الثالث : أنها بدل من «نِعْمَة »{[37020]} .

الرابع : أنها بدل من هاء «تَمُنُّهَا » .

الخامس : أنها مجرورة بباء مقدرة ، أي : بأَنْ عَبَّدْتَ .

السادس : أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي أن عَبَّدْتَ .

السابع : أنها منصوبة بإضمار «أعني » والجملة من «تَمُنُّهَا » صفة ل «نِعْمَة » و «تَمُنُّ » يتعدى بالباء ، فقيل : هي محذوفة ، أي : تَمُنُّ بها .

وقيل : ضُمِّنَ «تَمُنُّ » معنى «تَذْكُرُ »{[37021]} . ويقال : عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته : [ إذا اتخذته عبداً ]{[37022]} {[37023]} .

فصل :

اختلفوا في تأويل «أَنْ عَبَّدْتَ » : فحملها بعضهم على الإقرار ، وبعضهم على الإنكار . وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا } [ الشعراء : 18 ] .

فمن قال : هو إقرار ، قال : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل ، أي : بلى و { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } وتركتني فلم تستعبدني . ومن قال : هو إنكار قال : قوله : «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » هو على طريق الاستفهام ، كما تقدم في إعرابها ، يعني : أَوَ تِلْكَ نعمة ، فحذفت ألف الاستفهام ، كقوله : { فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] وقال الشاعر :

3899 - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ *** وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ{[37024]}

أي : أتروح من الحي ، وقال عمر{[37025]} بن عبد الله بن أبي ربيعة :

3900 - لَمْ{[37026]} أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا*** وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ

وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ *** تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ{[37027]}

أي : أتتركني . يقول : تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة{[37028]} . أو يريد : كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية ، وقد استعبدت قومي ؟ ومن أُهين قومه ذلّ ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ{[37029]} .

وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل ، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية{[37030]} . وقيل : إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي ، ليس لك إلا مجرد الاسم ، وهذا ما يعدّ إنعاماً{[37031]} . وقيل : معناه : تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني ، فإنه كان لي{[37032]} من أهلي من يربِّيني ويكفلني ، ولم يلقوني في اليمِّ ، فأيّ نعمة لك عليَّ{[37033]} . وقيل : معناه أنك تدَّعي أن بني إسرائيل عبيدك ، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته{[37034]} .


[37012]:انظر معاني القرآن للفراء 2/279.
[37013]:انظر القرطبي 13/96.
[37014]:ثم: تكملة ليست في المخطوط.
[37015]:قال الأخفش: ( وقال: {وتلك نعمة تمنها عليَّ} فيقال هذا استفهام كأنه قال: أوَ تلك نعمة تمنها) معاني القرآن 2/645-646.
[37016]:جزء بيت من بحر المنسرح، قال حضرمي بن عامر، وتمامه: .........وأن *** أورث زوداً شصائص نبلا وقد تقدم تخريجه. والشاهد فيه حذف همزة الاستفهام الإنكاري، والمعنى أأفرح.
[37017]:[النساء: 79]. وذكر هناك: وقيل في قوله "فمن نفسك" أن همزة الاستفهام محذوفة، تقديره: أفمن نفسك، وهو كثير كقوله تعالى: "وتلك نعمة تمنها علي" وقول الشاعر: أفرح أن أرزأ الكرام *** ... البيت، وهذا لم يجره من النحاة إلا الأخفش، وأما غيره فلم يجره إلا قبل (أم) كقوله: لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً *** بسبع رمين الجمر أم بثمان انظر اللباب 3/122.
[37018]:انظر: الكشاف 3/111.
[37019]:حكاه أبو حيان عن الحوفي. البحر المحيط 7/12.
[37020]:انظر البيان 2/213، التبيان 2/995.
[37021]:انظر: التبيان 2/995. من الوجه الثاني.
[37022]:انظر الفخر الرازي 24/126.
[37023]:ما بين القوسين سقط من ب.
[37024]:البيت من بحر المتقارب، قاله امرؤ القيس، وهو في ديوانه (154)، تفسير ابن عطية 1/100، القرطبي 13/96. الرواح: السير في العشي. الابتكار: الخروج مبكراً. الشاهد فيه حذف همزة الاستفهام في (تروح)؛ إذ أصلها: أتروح؟ والدليل وجود (أم) في الكلام.
[37025]:في الأصل: عمرو. وهو تحريف.
[37026]:في ب: ألم.
[37027]:البيتان من بحر المتوسط، قالهما عمر بن أبي ربيعة، وليسا في ديوانه وهما في القرطبي 13/96. والشاهد فيهما حذف همزة الاستفهام في (تتركني)، إذ الأصل: أتتركني. وليس في الكلام (أم).
[37028]:انظر البغوي 6/209-210.
[37029]:المرجع السابق 6/210.
[37030]:انظر الفخر الرازي 24/126.
[37031]:المرجع السابق.
[37032]:لي: سقط من ب.
[37033]:انظر البغوي 6/210.
[37034]:انظر الفخر الرازي 24/126.