اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

لما ذَكَرَ تعالى أمر اليتامى ، وصله بذكر المواريثِ ، وهذا هو النَّوْع الرَّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة ، ويكون ما يتعلق بالمواريث .

قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية " أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة ، فجاء رجلان من بَنِي عمّه{[6678]} وهما وصيّان له يقال لهما : سُوَيدٌ وعَرْفجَة فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهليَّةِ لا يورثون النِّساء ولا الصغار ، وإنْ كان الصغير ذكراً{[6679]} إنما كانوا يورثون الرِّجال ، ويقولون لا يعطى إلا من قاتل ، وطاعن بالرُّمح ، وحاز القسمة وذبَّ عن الحَوْزَةِ ، فجأت أمُّ كُحّة{[6680]} فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات ، وترك عليَّ بنات ، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالاً حسناً ، وهو عند سويد وعرْفجة ، ولكم يعطياني ولا بناتي شيئاً وهن في حجري لا يطمعْنَ ولا يسقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدثُ اللَّه في أمرك " . فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ، ولا يحمل كلاًّ ، ولا يَنْكَأُ عَدُوّاً فأنزل الله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } يعني للذُّكور مما ترك أولاد الميِّت وأقربائه { نَصيِبٌ } حظّ { مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } من الميراث ، { وَلِلنِّسَاءِ } نصيب ، ولكنه تعالى لم يُبَيِّن المقدار في هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أوْسِ بْنِ ثَابِتْ شيئاً فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيباً مِمَّا تَرَكَ ، ولَمْ يبيِّن كَمْ هُوَ حَتَّى أنْظُر مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ " فأنزل اللَّهُ - عزّ وجلّ - : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ] فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سُوَيْدٍ وَعُرْفُجة أن ادفعا إلى أمّ كُحة الثمن وإلى بناته الثلثين ، ولكما باقي المال ، " فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية{[6681]} .

بين الله تعالى أن للنِّسَاء حقاً في الميراث خلافاً لعادَةِ العرب في الجاهليَّةِ وذكره مُجْملاً أولاً ثم بَيَّنَهُ بعد ذلك على سبيل التدريج ؛ لأنَّ النَّقل عن العادة يشق{[6682]} ، فقال لهما : " ادفعا إليها نصيب بناتها الثُّلثين ولَكُمَا باقي المال " .

قوله : { مِّمَّا تَرَكَ } هذا الجارُّ في محل رفع ؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ : نَصِيبٌ كائن أو مستقر ، ويجوز أن يكون في محلّ نصبٍ متعلقاً بلفظ " نصيب " لأنه من تمامه . وقوله { مِمَّا قَلَّ } [ و ]{[6683]} في هذا الجارّ أيضاً وجهان :

أحدهما : أنه بدل من " ما " الأخيرة{[6684]} في " مما ترك " بإعادة حرف الجرِّ في البدل ، والضمير{[6685]} في " منه " عائد على " ما " الأخيرة ، وهذا البدل مرادٌ أيضاً في الجملة الأولى حُذِفَ للدلالة عليه ، ولأن المقصود بذلك التأكيد ؛ لأنه تفصيلٌ للعموم المفهوم من قوله { مِّمَّا تَرَكَ } فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقِلَّةِ .

والثاني : أنه حال من الضَّمِيرِ المحذوف من " ترك " أي : مما تركه قليلاً ، أو كثيراً ، أو مستقراً مما قلّ .

فصل

قال القُرْطُبِيُّ{[6686]} : استدلّ علماؤنا بهذه الآية على قسم المتروك{[6687]} على الفرائض ، فإن كانت القِسْمَةُ لغير المتروك عن حاله كالحمام الصّغير ، والدّار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها فقال مالك{[6688]} : يقسم ذلك ، وإن لم ينتفع أحدهم بنصيبه لقوله{[6689]} تعالى { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [ النساء : 7 ] وبه قال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة{[6690]} .

قال أبو حنيفة : في الدَّار الصَّغيرة يكون بين اثنين فطلب أحدهما القسمة ، وأبى صَاحِبُه قُسمتْ له .

وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا يَنْتَفِعُ بقسمه ، فلا يقسم ، وكل قسم يدخل فيه الضّرر على أحدهما{[6691]} ، دون الآخر فإنَّه لا يقسم ، وهو قول أبي ثَوْرٍ .

وقال ابْنُ المُنْذِرِ : وهو أصحُّ القولين{[6692]} .

قوله : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } فيه أوجه :

أحدها : أن " نصيباً " ينتصب على أنَّهُ واقع موقع المصدر ، والعامل فيه معنى ما تقدَّم إذ التَّقدير عطاءً أو استحقاقاً ، وهذا معنى قول مَنْ يقول منصوب على المصدر المؤكد .

قال الزَّمخشريُّ : كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ } [ النساء : 11 ] كأنه قيل : قسمة مفروضة ، وقد سَبَقه الفرَّاءُ إلى هذا ، قال : نُصِبَ ؛ لأنه أخرج مُخْرَجَ المَصْدَر ؛ ولذلك وحّده كقولك : له عَليَّ كذا حقّاً لازماً ، ونحوه { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ } ، ولو كان اسْماً صحيحاً لم ينصب ، لا تقول : لك عليَّ حق درهماً .

الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ ويُحتمل أن يكون صاحبُ الحال الفاعل في " قَلَّ " ، أو " كَثر " ، ويُحتمل أن يكون " نَصِيب " ، وإن كان نكرة لتخصّصه إمَّا بالوَصْفِ ، وإمَّا بالعمل والعامل في الحال الاستقرار الَّذِي في قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ } ، وإلى نصبه حالاً ذهب الزَّجَّاج ومكيٌّ قالا : المعنى لهؤلاء أنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض .

الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الاختصاص بمعنى : أعني نَصِيباً ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ .

قال أبو حيَّان : إن عنى الاخْتِصَاص المصطلَح عليه فهو مردود بكونه نكرةً ، وقد نَصُّوا على اشتراط تعريفه .

الرابع : النصب بإضمار فعل أي : أوجبت أو جُعِلَت لهم نصيباً .

الخامس : أنه مصدر صريح أي نَصَبْتُهُ نَصِيباً .

فصل دلالة الآية على توريث ذوي الأرحام

قال أبُو بكرٍ الرازي : هذه الآية تَدُلُّ على توريث{[6693]} ذوي الأرْحَام : لأنَّ العمَّاتِ والأخوالَ ، والخالاتِ ، وأولادَ البنات من القربين ، فوجب دُخُولُهُم تَحْتَ قوله { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } أقصى ما في الباب أنَّ قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلاَّ{[6694]} أنَّا نثبت كونهم مستحقين لأصل النَّصيب بهذه الآية ، وَأَمَّا المقدار فنستفيده من سائر الدلائل .

فصل

معنى " مفروضاً " أي : مَقْطُوعاً واجباً وأصلُ الفرضِ : الحز{[6695]} والتأثير ، ولذلك سُمِّيَ الحزّ{[6696]} الَّذي في سية القوس ، فرضاً ، والحزُّ{[6697]} الَّذي في القداح يسمَّى أيضاً فرضاً ، وهو علامة لتميّز بينها وبين غيرها ، والفرضة{[6698]} علامة في مقسم الماء يعرفُ بها كل ذي حقٍّ حقَّه من الشُّرْبِ ، فهذا أصلُ الفرض في اللُّغَةِ ، ولهذا سَمَّى أصحابُ أبي حنيفة الفرض [ به ]{[6699]} ما{[6700]} ثبت بدليل قَطْعِيٍّ ، والواجب ما{[6701]} ثبت بدليل ظنيِّ ، قالوا إنَّ الفرضَ عبارةٌ عن الحزّ والقطع ، والواجب عبارة عن السقوط يقال : وَجَبَتِ الشَّمْسُ : إذا سَقَطَت وسمعتُ وجبةٌ يعني : سَقْطَة ، قال تعالى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا }[ الحج : 36 ] أي : سَقَطَتْ ، وتأثير القَطْعِ أقوى من تأثير السُّقوط .

قال ابن الخطيب{[6702]} : وهذا التقرير يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام [ لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل ]{[6703]} قاطع بإجْمَاعِ الأمَّةِ ، فلم يكن توريثهم فَرْضاً ، والآية إنَّمَا تناولت التَّوريث المفروض فَلَزِمَ القَطْعُ بأنَّ هذه الآية ما تَنَاولت ذوي الأرْحَامِ .


[6678]:في ب: لحمه.
[6679]:ينظر: تفسير القرطبي 5/31.
[6680]:أم كجة بضم الكاف والحاء المهملة زوج أوس بن ثابت: نزلت فيها آية المواريث. ينظر أسد الغابة 7/381.
[6681]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/217) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس. وأخرجه الطبري (7/598) عن عكرمة مختصرا وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/218) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر.
[6682]:في ب: مشتق.
[6683]:سقط في ب.
[6684]:في ب: الآخرة.
[6685]:في أ: والضم.
[6686]:ينظر: تفسير القرطبي 5/32.
[6687]:في أ: التركة.
[6688]:في أ: ذلك.
[6689]:في أ: كقوله.
[6690]:ينظر: تفسير القرطبي 5/32.
[6691]:في أ: أحدهم.
[6692]:ينظر: تفسير القرطبي 5/32.
[6693]:في أ: ترتيب.
[6694]:في ب: "إلا أنها تدل على".
[6695]:في ب: جزف.
[6696]:في ب: الحر.
[6697]:في ب: الحر.
[6698]:في أ: يتميز بها عن غيرها وافترضته.
[6699]:سقط في ب.
[6700]:في ب: بما.
[6701]:في ب: بما.
[6702]:ينظر: تفسير الرازي 9/159.
[6703]:سقط في أ.