اعلم أنَّ أقسام الوراثة ثلاثة :
قسم لا يسقط بحال وهم : الآباء والأولاد والأزواج قسمان ، والثَّالِثُ هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوَّلين لأنه قد يعرض لهم السُّقوط بالكليَّة ، ولأنَّهم يدلون إلى الميِّتِ بواسطة ، والقسمان الأوَّلان يدلون بأنفسهم فقدَّمَ اللَّهُ تعالى الوارث بالنَّسب ؛ لأنَّهُ أعلاها ثمَّ ثنى بذكر الوارث بالسَّبب الَّذي لا يسقط بحال ، لأنَّهُ دون الأوَّلِ وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثَّالث بعدهما ؛ لأنَّهُ دونهما ، ولما جعل نصيب الذَّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرَّجُلِ مثل حظِّ الأنثيين في الوارث السببي فقال { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ }{[6850]} وسواء كان الولد من الزوج ، أو من غيره وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى ، ولا فرق بين الأوَّلادِ وأولاد الأولاد .
فصل : الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها
ذهب الشافعيُّ وأحمدُ إلى أنَّهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أن يغسل{[6851]} زوجته لقوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } فسمَّاها زوجة بعد الموت .
قال أبو حنيفة : لا يَجُوزُ ؛ لأنَّهَا ليست زوجة ؛ لأنَّهُ لا يحلُّ وطؤها بعد الموت .
وأجيب بأنَّها لو لم تكن زوجة لكان قوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } مجازاً ، وقد ثبت أنَّ التَّخْصيص أولى من المجاز عند التَّعارُضِ ، وأيضاً فقد حَرُمَ الوطء في صورٍ كَثِيرَةٍ مع وجود الزوجيَّة{[6852]} كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان ، وعند الصّلوات المفروضة ، والحج المفروض .
ثمَّ قال : { فلهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم فإن كان لكم ولد فلهن الثمن } وسواء كانت واحدة أو أربعاً فهم فيه سواء ، وهذه الآية تدلُّ على فضل الرَّجل على المرأة لتفضيلهم في النَّصِيبِ ، ولأنَّهُ ذكر الرِّجَالَ على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة .
قوله : { وإن كان رجل يورثه كلالة } اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى { الْكَلاَلَةِ } واشتقاقها ، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك ، فتقول : اختلف الناس في معنى { الْكَلاَلَةِ }
فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد ، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ .
وقيل : الَّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر .
وقيل : هو من لا يرثه أبٌ ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلِّها فالكلالةُ واقعة على الميت .
وقيل : الكَلاَلَةُ : الورثة ما عدا الأبوين{[6853]} والولد ، قاله قُطْرب ، وهو اختيار أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وسموا بذلك ؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة ، أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن .
وأيضاً يقال{[6854]} : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد ، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه .
وأيضاً يقال : كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً : إذا أعيا وذهبت قوَّته ، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة ، من غير أولاد لبعدها{[6855]} .
وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ } [ النساء : 176 ] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ ، وهما لا يرثانِ مع وجود الأب .
" وروى جابر قال{[6856]} : مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ : يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة " ، وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد ، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ .
وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال : " سألت رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها ، ضرب بيده صدري وقال " يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ " ، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك ؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً .
وقيل : { الْكَلاَلَةِ } : المالُ الموروث ، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ .
وقيل : { الْكَلاَلَةِ } القرابة ، وقيل : الوراثة .
فقد تلخص مما تقدم أنَّها [ إمَّا ]{[6857]} الميِّتُ الموروث أو الوارثُ ، أو المال الموروثُ ، أو الإرْث ، أو القرابة .
وأما اشتقاقها : فقيل : هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء ، أي{[6858]} : أحاط به ، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ{[6859]} وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ ، أي : يحيط به كالإكْليلِ .
ومنه " الروضة المكللة " أي : بالزَّهْرِ ، وعليه قول الفرزدق : [ الطويل ]
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ المَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ *** عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ{[6860]}
وقيل : اشتقاقها من " الكلال " وهو الإعْيَاء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : و " الكلالة " في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء .
فَآلَيْتُ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ *** وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّدَا{[6861]}
فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة ، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن " فَعَالة " ، قال : " كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ " .
ويقال : رجل كلالة ، وامرأةٌ كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة .
إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله ، فتقول : يجوز في " كان " وجهان :
أحدهما : أن تكون ناقصة و " رجل " اسمها ، وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : أنه " كلالة " إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل : إنَّها الوارث ، أو غير ذلك ، فَتُقَدَّر حذف مضاف ، أي : ذَا كلالة ، و " يورث " حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة ل " رجل " وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول ، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أُقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ ، وهو ضمير الرَّجُلِ .
والثَّاني : محذوف تقديره : يورث هو مَالَهُ ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من " ورث " الثُّلاثي أو " أورث " الرُّبَاعيُّ ؟ .
فيه خلافٌ ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [ المفعول ]{[6862]} الأوَّلِ من المفعولين ب " من " فإنَّهُ قال [ وإن كان رجل يورث من كلالة ]{[6863]} و " يورث " من وَرِثَ{[6864]} أي : يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى ب " مِنْ " . [ قال : ]{[6865]} وقد تُحْذَفُ ، تقولُ : " وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ " أي : مِنْ زيد ، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ " أورث " جعل الرَّجُلَ وارثاً لا موروثاً ، فإنَّهُ قال : " فإنْ قلتَ : فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من " أورث " فما وَجْهُهُ ؟ .
قلتُ : الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ " .
وقال أبُو حيَّان{[6866]} : إنَّهُ من " أورث " الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ .
الاحتمالُ الثَّاني : أن يكون الخبرُ الجملة من " يورث " .
وفي نَصْبِ { كَلاَلَةً } أربعةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ حال من الضمير في " يورث " ، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ ، أو الوارثُ ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ ، أي : يُورث ذا كَلاَلَةٍ ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في { يُورَثُ } .
قال أبُو البَقَاءِ{[6867]} : على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ " كلالةٌ " بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في { يُورَثُ } لجاز ، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به ، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ . يعني بكونها صفةً : أنَّهَا صفةٌ ل " رَجُل " .
الثَّاني : أنَّهَا مفعولٌ من أجله ، إنْ قيل : إنَّهَا بمعنى القرابة ، أي : يُورَثُ لأجل الكلالة .
الثَّالثُ : أنَّهُ مفعول ثَانٍ ل { يُورَثُ } إن قيل : إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ .
الرَّابعُ : أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، إن قيل : إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ ، أي : يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ .
وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره : " ذَات كَلاَلَةٍ " .
وأجاز بعضهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكون حالا .
الوجه الثَّاني من وجهي " كان " أن تكون تَامّةً ، فيُكْتَفى بالمرفوع ، أي : وَإن وُجِدَ رجل . و { يُورَثُ } في محلِّ رفع صِفَةٍ ل " رَجُل " و { كَلاَلَةً } منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال ، أو المفعول من أجله أو المفعول به ، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها ، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ ، وهو أن تَكُونَ { كَلاَلَةً } منصوبة على التمييزِ .
[ قال مَكِّيٌّ : " كان " أي : وقع ، و { يُورَثُ } نعت للرَّجُل و " رجل " رفع ب " كان " و { كَلاَلَةً } نصب على التفسير ]{[6868]} .
وقيل : هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين ، وفي جعلها تَفْسيراً - أي : تمييزاً - نظرٌ لا يَخْفى .
وقرأ الجمهور : { يُورَثُ } مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه .
وقرأ الحسن{[6869]} : يورث مبنيّاً للفاعل ، ونُقِلَ عنه أيضاً ، وعن أبي رَجَاءَ كذلك ، إلاَّ أنَّهما شدَّدا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح مِمَّا تقدَّم ، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ ، فيكون المفعولان محذوفين ، و { كَلاَلَةً } نَصْبٌ على الحال ، أي : وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً .
وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة ، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله ، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره ، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً ، والأوَّلُ محذوفٌ أي : يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس ، أي : يُورِثُ مالَه أهلَه .
قوله : { أَو امْرَأَةٌ } عطف على { رَجُلٌ } وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التَّقديرُ : أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً ، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس ، إلاَّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ .
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ }{[6870]} جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا { رَجُلٌ } أي : إنْ كان { يُورَثُ } صفةً له ، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في { يُورَثُ } وَوَحَّدَ الضمير في قوله : " وله " ؛ لأنَّ العطف ب " أو " وما ورد على خلاف ذلك أوِّلَ عند الجمهور كقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ } ثم قال { وَلَهُ أَخٌ } فهي عن الرَّجُلِ ، وما هي عن المرأة ، فما السَّبَبُ فيه ؟ .
فالجوابُ : قال النُّحَاةُ : إذا تقدَّمَ متعاطفان ب " أو " مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار ، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ ، فتقول : " زيدٌ أو هندُ قامَ " وَإنْ شئت : " قَامَتْ " .
وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه :
أحدُهَا : أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به{[6871]} .
الثَّانِي : أنَّهُ يعود على أحدهما ، ولفظ " أحَد " مفردٌ مذكَّرٌ .
والثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على الميِّت ، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه ، والضَّمير في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان :
أحدُهُمَا : أنَّهُ يعود على الأخ والأخت .
والثَّانِي : أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه وأخته ، إذا أُريد بالرَّجُلِ في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ .
قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه - : " فإن قلتَ : فالضَّمِيرُ في قوله : { فلكل واحد منهما } إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ ؟ .
قلت : على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه ، أو أخته ، وعلى الأوَّل إليهما .
فإن قُلْتَ : إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما{[6872]} أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى ، فهلْ تبقى هذه الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه ؟ .
قلتُ : نَعَمْ ، لأنك إذا قلتَ : السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير ، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى " . انتهى .
وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك ، وهو كون للأخت النّصف ، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين ، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ{[6873]} . وقرأ أبيٌّ " أخ أو أخت من الأم " {[6874]} .
وقرأ سعد بن أبي وقاص{[6875]} " من أم " بغير أداة التَّعريف .
قوله : { فَإِن كَانُواْ } الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } والمرادُ الذُّكورُ والإناث ، وأتى بضمير الذُّكور في قوله : { كَانُواْ } وقوله : { خَلْفِهِمْ } تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ ، و " ذلك " إشارةٌ إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد ؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال : " هذا أكثرُ من واحد " بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه ، وتقدَّمَ إعراب { من بعد وصية يوصى بها } .
فصل : في أثر عن أبي بكر - رضي الله عنه -
قال أبو بكر الصّديق - رضي الله عنه - في خطبته : ألا إنَّ الآيةَ التي أنزل اللَّهُ - تعالى - في أوَّل سورة النِّسَاءِ في بيان الفرائضِ أنزلها في الوَلَدِ ، والوالد والأمِّ ، والآية الثَّانية في الزَّوْجِ والزَّوجة والإخوة من الأمِّ ، والآية الَّتي ختم بها سورة النساء في الإخوة ، والأخوات من الأب والأمِّ ، والآية التي ختم بها سورة الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }{[6876]} [ الأنفال : 75 ] .
قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } " غير " نَصْبٌ على الحال من الفاعل في " يوصَى " ، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } ، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث ، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام ، كما دلَّ عليه في قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء :11 ] ، أي : تَرَكَهُ الموروث ، فصار التقدير : يوصَى بها الموروثُ ، وهكذا أعْرَبَه الناس فجعلوه حالاً : الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره .
وَردَّهُ أبو حيَّان{[6877]} ، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال{[6878]} وعامِلها بأجنبيِّ منهما ، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها { يُوصَى } كما تقرَّرَ .
وقوله : { أَوْ دَيْنٍ } أجنبي ؛ لأنَّهُ معطوف على { وَصِيَّةٍ } الموصوفة بالعامل في الحال .
قال : ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب : { من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين } .
وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني بناء الفعلِ للفاعل ، أو المفعول ، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهاً آخَر ، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور ؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل ، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه ، ألا ترى أنَّكَ لو قلت : " ترسل الرياح مبشراً بها " بكسر الشين يعني " يرسل الله الرياح مبشراً بها " فحذفت الفاعل ، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ ، فكذلك هذا ، ثم خَرَّجه على أحد وجهين :
إما بفعل يَدُلُّ عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن ، وتقديره : يلزمُ ذلك مالَهُ ، أو يوجبه [ فيه ]{[6879]} غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب .
وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه ، أي : يوصي غير مُضارٍّ ، فيصيرُ نظير قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] على قراءة من قرأ بفتح الباء .
اعلم أنَّ الضّرار في{[6880]} الوَصِيَّةِ يقعُ على وجوهٍ :
منها : أن يوصي بأكثر من الثُّلُثِ ، أو يُقِرَّ بكلِّ ماله ، أو ببعضه لآخر ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقةَ له دَفْعاً للميراث عن الورثة ، أو يُقِرَّ بأنَّ الدّين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه ، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص ، أو يشتري شيئاً بثمن غالٍ ، كلُّ ذلك لغرض ألاَّ يصلَ المالُ إلى الورثة ، أو يوصي بالثُّلُث لا لوجه اللَّهِ ولكن لغرض تنقيص حقوق الورثةِ ، فهذا هو [ وجه ]{[6881]} الإضرار في الوصيةِ .
روى عكرمة عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ " {[6882]} ، وعن شَهْر بْنِ حَوْشَب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإذَا أوْصَى وَجَارَ فِي وَصِيَّتِه خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِشرِّ عَمَلِهِ ؛ فَيدخُل النَّارَ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ " {[6883]} ، وقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فَرَضَهُ اللَّهُ - تعالى - قَطَعَ اللَّهُ - تعالى - مِيراثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ " {[6884]} ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية{[6885]} :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } [ النساء : 13 ] قال ابنُ عبَّاسٍ : في الوصيَّةِ { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
[ النساء : 14 ] قال : في الوصِيَّةِ{[6886]} .
فصل هل يجب إخراج الزكاة والحج من التركة ؟
قال الشَّافِعِيُّ : إذَا أخَّرَ الزَّكاةَ والحج حتَّى مات يجب{[6887]} إخراجهما من التَّركة .
وقال أبو حَنِيفَةَ : " لا تجب " .
حجَّةُ الوجوب أنَّهَا دينٌ ، وقال تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : " أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْنٌ " وقال عليه السلام : " دينُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى " .
قوله : { وَصِيَّةٍ } في نصبها أربعة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدرٌ مؤكَّد ، أي : يوصيكم اللَّهُ [ بذلك ]{[6888]} وَصِيَّة .
الثَّاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها { يُوصِيكُمُ اللَّهُ } قاله ابنُ عَطِيَّةَ .
والثَّالِثُ : أنَّهَا منصوبةٌ على الخروج إمَّا مِنْ قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ، أو من قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } ، وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين .
والرَّابعُ : أنَّها منصوبةٌ باسم الفاعل وهو { مُضَآرٍّ } والمُضَارَّة لا تقع بالوصيَّةِ بل بالورثة ، لكنَّه لَمَّا وَصَّى اللَّهُ - تعالى - بالورَثَة جَعَلَ المُضَارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مُبَالَغةً في ذلك ، وَيُؤيَّدُ هذا التخريج قراءة الحسن{[6889]} : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ } بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وَصَارَ نظير قولهم : " يا سارِقَ الليلةَ " ، التقدير{[6890]} : يا سارقاً في اللَّيْلة ، ولكنَّهُ أضاف اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً ، فكذلك هذا أصله : " غير مضار في وصية من الله " ، فاتُّسعَ في هذا إلى أنَّ عُدَّيَ بنفسه من غير واسطةٍ ، لما ذكرنا من قَصْد المبالغة ، وهذا أحْسَنُ تخريجاً من تخريج أبي البَقَاءِ فإنَّهُ ذكر في تخريج قراءة الحَسَنِ وجهين :
أحدهما : أنَّهُ على حذف " أهل " أو " ذي " أي : غير مضارِّ أهل وصيَّةٍ ، أو ذي وَصِيَّة .
والثَّاني : على حذف وقت ، أي : وقت وصيَّة ، قال وهو مِنْ إضافَةِ الصِّفة إلى الزَّمانِ ، ويقرب من ذلك قولهم : هو فارسُ حربٍ ، أي : فارس في الحرب ، وتقولُ : هو فارسُ زمانه ، أي : فارس في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضارٍّ في وقت الوصيَّة .
ومفعول { مُضَآرٍّ } محذوفٌ إذا لم تُجعَلْ { وَصِيَّةً } مفعولةً ، أي : غير مضارٍّ وَرَثتِهِ بوصيَّةِ .
فَإنْ قيل : ما الحكمةُ في أنَّهُ ختم الآية الأولى بقوله : " فريضة من الله والله عليم حليم " وختم هذه الآية بقوله : " وصية من الله " ؟ فالجوابُ : أنَّ لفظ الفرض أقوى وأوكد من لفظ الوَصِيَّةِ ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصيَّةِ ليدلَّ بذلك على أنَّ الكلَّ ، وإن كان واجب الرِّعاية ، إلاَّ أن رعاية حال الأولاد أولى وأقوى ، ثم قال : { والله عليم حليم } عليم بمن جار أو عدل في وصيته " حليم " على الجائر لا يعالجه بالعقوبة وهذا وعيدٌ .