لما أمر تعالى في الآية المتقدّمة بالإحسان إلى النساء أمَرَ هنا بالتَّغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشةِ فإن ذلك إحسان إليهن في الحقيقة .
وأيضاً وكما يستوفى لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وليس في أحكامه محاباة .
وأيضاً فلا يجعل أمر اللَّه بالإحسان إليهنَّ سبباً لترك إقامة الحدود عليهن فيصيرُ ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد .
قوله : { وَاللاَّتِي } جمع " التي " في المعنى لا في اللَّفْظِ ، لأنَّ هذه صيغٌ [ موضوعة للتّثنية والجمع ، وليس بتثنية ولا جمع حقيقةً .
وقال أبُو البَقَاءِ : " اللاتي " جمع " التي " على غير قياس .
وقيل : هي صيغة ]{[6915]} موضوعة للجمع ، ومثل هذا لا ينبغي أن يَعُدَّه خلافاً ، ولها جموعٌ كثيرة : ثلاث عشرةَ لفظة ، وهي : اللاتي واللوَاتِي ، واللائِي ، وبلا ياءات فهذه ستٌّ ، واللاي بالياء من غير همز ، واللا من غير ياء ولا همز ، واللَّواء ، بالمدِّ ، واللَّوا بالقَصْر و " الأُلى " كقوله : [ الطويل ]
فَأمَّا الأُلَى يَسْكُنَّ غَوْرَ تِهَامَةٍ *** فَكُلُّ فَتَاةٍ تَتْرُكُ الْحِجْلَ أفْصَمَا{[6916]}
إلاَّ أنَّ الكثير أن تكون جمع " الَّذي " و " اللاَّءاتِ " مكسوراً مُطْلَقاً أوْ مُعْرباً إعرابَ جمع المؤنَّث السَّالم كقوله : [ الطويل ]
أولَئِكَ إخْوَانِي الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ *** وأخدَانُكَ اللاَّءَاتُ زُيِّنَ بِالْكَتَمْ{[6917]}
قال ابن الأنباريِّ : العرب تقولُ في الجمع من غير الحيوان ، الّتي ، ومن الحيوان : اللاتي ، كقوله : { أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] .
وقال في هذه الآية : اللاتي ، واللائي ، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأمَّا جمع الحيوان ليس كذلك بل كلُّ واحدةٍ منهما غير متميزة عن غيرها بخواص{[6918]} وصفات فافترقا ، ومن العَرَبِ من يسوِّي بين البابين ، فيقولُ : كما فعلت الهندات التي من أمرها كذا ، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا ، والأوَّلُ هو المختار وفي محلِّ " اللاتي " قولان :
أحدهما : أنَّهُ رفعٌ بالابتداء ، وفي الخبر حينئذ وجهان :
أحدهما : الجملة من قوله : { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ } وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر ، وإن لم يَجُزْ زيادتها في نحو : " زيدٌ فاضرِبْ " على رأي الجمهور ؛ لأنَّ المبتدأ أشبه الشرط في كونه موصولاً عامّاً صلته فِعْلُ مستقبل ، والخبرُ مستحقٌّ بالصّلة .
الوجه الثاني : أنَّ الخبر محذوف ، والتقدير : " فيما يتلى عليكم حكم اللاتي " فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما ، وأقيمَ المضافُ إليه مُقامَه ، وهذا نظيرُ ما فَعَلَهُ سيبويه في نحو : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ } [ النور : 2 ]
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ } [ المائدة : 38 ] ، أي فيما يُتلى عليكم حُكْمُ الزانية ، ويكون قوله : " فاستشهدوا عليهن " " فاجلدوا " دالاًّ على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له .
والقولُ الثاني : أنَّ محلَّهُ نصبٌ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوبٌ بفعل مقدر لدلالة السِّياق عليه لا على جهة الاشتغال لما سنذكره ، والتقدير : اقصدوا اللاتي يأتين ، أو تعمَّدوا ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله : " فاستشهدوا " فتكون المسألةُ من باب الاشتغال ؛ لأنَّ هذا الموصولَ أشبَهَ اسْمَ الشّرطِ ، كما تقدَّم تقديره ، واسم الشرط لا يجوز أن ينتصب على الاشتغال ، لأنَّهُ لا يعمل فيه ما قبله فلو نصبناه بفعل فقد لزم أن يعمل فيه ما قبله هذا ما قاله بعضهمْ ، ويقرُبُ منه ما قاله أبُو البَقَاءِ فإنَّهُ قال : وإذا كان كذلك ، أي : كونه في حُكْمِ الشَّرْطِ لم يحسن النَّصب ، لأنَّ تقدير الفعل قبل أداء الشَّرط لا يجوز ، وتقديره بعد الصِّلةَ يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله " فاستشهدوا " ؛ لأن " استشهدوا " لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في " اللاتي " ، وفي عبارته مناقشةٌ يطولُ ذكرُهَا .
والثَّاني : أنَّهُ منصوب على الاشتغال ، ومَنَعُهُمْ ذلك بأنَّه يَلْزَمُ أن يعمل فيه ما قبله جوابه أنَّا نُقَدِّرُ الفعلَ بعده لا قَبْلَهُ{[6919]} ، وهذا خلافٌ مشهور في أسماءِ الشَّرْطِ والاستفهام ، هل يَجْرِي فيها الاشتغال أم لا ؟ .
فمنعه قَوْمٌ لِمَا تقدم وأجازه آخرون مقدَِّرين الفعل بعد الشَّرْطِ والاستفهامِ . وكونُهُ منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكِّيٍّ ، فإنَّهُ ذكر ذلك في قوله :
{ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] فالآيتانُ من وادٍ واحد ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لِيتَّضِحَ لك قوله ؛ قال - رحمه الله - : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا } [ النساء : 16 ] الاختيار عند سيبويه في " اللذان " الرفع ، وإن كان معنى الكلام الأمْرَ ؛ لأنَّه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّنَ معنى الشَّرط فيه ، إذْ لا يقع على شيء بعينه ، فلمَّا تمكَّنَ معنى الشَّرط والإبهام جرى مَجْرَى الشَّرطِ في كونه لم يَعْمل فيه مَا قَبْلَهُ ، كما لا يعمل في الشَّرط ما قبله من مُضْمَر أو مظهر ، ثم قال : " والنَّصْبُ جائِزٌ على إضمارِ فعل ؛ لأنَّهُ إنَّما أشبه الشّرط ، وليس الشبيه بالشيءِ كالشيءِ في حكمه " انتهى .
وليس لقائل أن يَقُولَ : مُرَادُهُ النَّصْبُ{[6920]} بإضمار فعل{[6921]} النَّصب على الاشتغال ، بل بفعلٍ مدلولٍ عليه كما تَقَدَّمَ نقله عن بعضهم ، لأنه لم يكُنْ لتعليله بقوله : " لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره " فائدة ، إذ النصبُ كذلك لا يحتاج إلى هذا الاعتذار .
قال القرطبيُّ{[6922]} : الفاحشة في هذا الموضع الزنا ، فالمرادُ بالفاحشة : الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعَاقِبَةِ والعَافِيَةِ ، وقرأ{[6923]} ابن مسعود " بالفاحشة " بباء الجرِّ وقوله : " من نسائكم " في محلِّ النّصب على الحال من الفاعل في " يأتين " ، فهو يتعلق بمحذوفٍ أي : يأتين كائناتٍ من نسائكم .
وأما قوله : " منكم " ففيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بقوله : " فاستشهدوا " .
والثاني : أن يَتَعَلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ صفة ل " أربعة " فيكون في محل نصبٍ تقديره : فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً كائنة منكم .
معنى يأتين الفاحشة أي يفعلنها يقال{[6924]} : أتيت أمراً قبيحاً ، أي : فعلته قال تعالى :
{ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] وقوله تعالى : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 89 ] وقال ابن مسعود{[6925]} " بالفاحشة " هي الفعلة القبيحة .
قال أهل اللُّغَةِ هي مصدر كالعاقبة والعافية ، ويُقَالُ : فحش الرَّجُلُ بمعنى تفحش فحشاً وفاحشة{[6926]} وأفحش إذا جَاءَ بالقبيح من القول والفعل ، وأجمعوا على أنَّ المراد بالفاحشة هنا الزّنا ، وإنَّما تطلق الفاحشةُ على الزِّنا لزيادتها في القُبْحِ على كثير من القَبَائِحِ .
فإن قيل : الكفرُ أقْبَحُ منه ، وقتل النفس أقبح منه ، ولا يُسمَّى ذلك فاحشة ؟
الأوَّلُ : أنَّ الكفرَ لا يستحقه الكافر من نفسه ولا يعتقده قبحاً{[6927]} ، بل يعتقده صواباً ، وكذلك المقبل على الشجاعة يُقْدِمُ عليها من يراها حسنةً وأمَّا الزِّنَا ففاعله يعلمُ قُبْحَهُ [ ويُقْدِمُ عَلَيْهِ ]{[6928]} وَيُوَافِق على فحشه .
الثاني : قال ابن الخطيب{[6929]} : إنَّ القُوَى المدَبرة لقوى الإنسان ثلاثة القُوَى النّاطقة ، والقوَّةُ الغضبية ، والقوّة الشَّهوانيةُ وفساد القوَّة النَّاطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما ، وفساد القوَّة الغضبية هو القتل وما يشبهه وأخس{[6930]} هذه القوى الثلاثة القوة الشَّهوانية فلا جَرَمَ كَانَ فَسَادُهَا أخس أنواع الفساد ، فلهذا السبب خُصَّ هذا العمل بالفاحشةِ .
قوله : { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أي : من المسلمين فجعل اللَّهُ الشهادةَ على الزنا خاصة بأربعة تغليظاً على المدَّعي وستراً على العباد .
وقال القرطبيُّ{[6931]} : وتعديل الشهود بأربعة في الزّنا حكم ثابت في التّوراة والإنجيل والقرآن{[6932]} ؛ قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } [ النور : 4 ] وقال هنا : { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } وروى أبو داود عن جابر بن عبد اللَّه : جاءت اليهودُ برجُلٍ وامرأةٍ زنيا ، فقال عليه السَّلام : " ائْتُونِي بأعْلَمَ رَجُلَيْنِ{[6933]} مِنْكُم " ، فَأتَوْهُ بابْنَي صُورِيَا فَنَشَدهُمَا : كَيْفَ تَجِدَانِ أمْرَ هَذَيْنِ في التَّوْرَاةِ ؟ قَالاَ : نَجِدُ في التَّوراةِ إذَا شَهِدَ أرْبَعةٌ أنَّهمُ رأوا ذكَرَهُ في فَرْجِهَا مِثلَ الْميلِ فِي المُكْحلةِ رُجِمَا قَالَ : فما يَمْنَعُكُمَا أن تَرْجُمُوهُمَا ؟ قَالاَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ ؛ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشُّهُودَ فَشَهِدُوا أنَّهُم رَأوا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْميلِ فِي المُكْحلةِ فَأمَرَ رَسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهِمَا " .
وقال قومٌ : إنَّمَا كان الشُّهود في الزِّنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ؛ إذْ هو حقٌّ يؤخذ{[6934]} من كلِّ واحد منهما ، وهذا ضعيف ؛ فإنَّ اليمين تدخل من الأموال والَّلوْثُ في القسامة ولا يدخلُ لواحد منهما هنا .
قال جمهورُ المفسرين{[6935]} : المراد من هذه الآية أنَّ المرأةَ إذا أتَت{[6936]} الزِّنَا فإن شَهِدَ عَلَيْهَا أربعةُ رجال أحرار عدول أنَّها زنت ؟ أمْسِكَتْ في بيت محبوسة ، إلى أن تموت أو يجعل اللَّهُ لها سبيلاً ، وقال أبُو مُسْلِمٍ : المرادُ من هذه الفاحشة السَّحاقات وَحَدُّهن{[6937]} الحبس إلى الموتِ ، والمرادُ من قوله : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] أهل اللواطُ وَحَدُّها الأذى بالقول والفعل ، والمراد بالآية المذكورة في سورة النُّورِ : الزنا بين الرَّجل والمرأة وَحَده في البكر الجلد ، وفي المحصن الرَّجم ، ويَدُلُّ على ذلك وجوه :
أحدها : أن قوله : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } مخصوص بالنّسوان وقوله :
{ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] مَخْصُوصٌ بالرِّجال ؛ لأنَّ قوله " اللذان " تثنية المذكر .
فإنْ قيل : لم لا يجوزُ أن يكونَ المراد من قوله : { وَاللَّذَانَ } الذّكر والأنثى إلاَّ أنَّه غلب لفظ الذَّكر .
فالجوابُ : لو كان كذلك لما أفرد ذكر النِّساء من قبل ، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعده قوله : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } سقط هذا الاحتمال .
وثانيها : أنَّ على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كلِّ واحد منهما باقياً مقرراً وعلى ما ذكر ثم يلزمُ النسخ في هاتين{[6938]} الآيتين والنَّسخ خلافُ الأصل .
ثالثها : أنَّ على التقدير الَّذي ذكرتم يكون قوله : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } في الزنا ، وقوله : { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } في الزِّنَا أيضاً فيفضي إلى تكرار{[6939]} الشيء الواحد في الموضع الواجد مرتين ، وإنَّهُ قبيح ، وعلى قولنا لا يفضي إلى ذلك فكان أولى .
رابعها : أنَّ القائلين بأنَّ هذه الآية نزلت في الزِّنا فسروا قوله : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } بالجلد والتغريب والرّجم ، وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ هذه الأشياء تكون عليهنّ لا لهُنَّ ، قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] وأمَّا نحن فنفسِّرُ ذلك بتسهيل اللَّه لها قضاء الشَّهوة بطريق النِّكاح .
قال أبُو مُسْلِمٍ{[6940]} : يَدُلُّ على صِحَّةِ ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم : " إذَا أتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ ، وَإذَا أتَت الْمَرْأةُ الْمَرْأةَ فَهُمَا زَانِيَتَان " واحتجُّوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه :
الأوَّلُ : أنَّ هذا قول لم يقله أحدٌ من المفسّرين المتقدّمين .
الثَّاني : أنَّه روي في الحديث أنَّهُ عليه السَّلام قال : " قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ " {[6941]} وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الآية نازلة في حقِّ الزُّنَاةِ .
الثَّالث : أنّ الصحابة اختلفوا في حكم اللِّواط ، ولم يتمسّك أحد منهم بهذه الآية ، فعدم تمسكهم بها مع شدَّةِ احتياجهم إلى نَصٍّ يدلُّ على هذا الحكم من أقوى الدَّلائل على أنَّ هذه الآية ليست في اللواطة .
وأجاب أبو مسلم عن الأوَّل بأنَّ هذا الإجماع ممنوع ، فلقد قال بهذا القول مجاهدٌ ، وهو من أكابر المفسرين ، وقد ثبت في أصول الفقه أنَّ استنباط تأويل{[6942]} جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز .
والجوابُ عن الثَّاني أنَّ هذا يفضي إلى نسخ القرآن بخبر الوَاحِدِ ، وإنَّهُ غير جائز .
وعن الثَّالِثِ أن مطلوب الصَّحابة أنَّهُ هل يُقام الحدُّ على اللوطي ، وليس في هذه الآية دلالة على نفي ولا إثبات فلهذا لم يرجعوا إليها .
المرادُ من قوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } أي : زوجاتكم لقوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ }
[ المجادلة : 3 ] وقوله : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] [ من نسائكم ]{[6943]} وقيل : أي : من الثيب . وقوله : " فأمسكوهن " أي احبسوهنّ في بيوتكم ، والحكمة فيه أنَّ المرأة إنَّمَا تقع في الزِّنَا عند الخروج والبروز ، فإذا حُبِسَتْ في البيت لم تقدر على الزِّنَا ، وتعتاد العفاف عن الزّنا .
قل عبادة بن الصّامت والحسن ومجاهد{[6944]} : كان هذا في ابتداء الإسلام حتى نسخ بالأذى الّذي بعده ، ثمَّ نسخ ذلك بالرّجم في الثيّب .
وقيل : بل كان الإيذاء أولاً ثمَّ نسخ بالإمساك ، ولَكِنَّ التلاوة أخرت .
وقال ابن فورك : هذا الإمساك والحبس في البيوت كانَ في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة . فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذوا لهم سجناً ، قال ابن العربي{[6945]} فإن قيل : التوفي والموت بمعنى واحد ، فيصير التَّقدير : أو يميتهن الموت .
فالجوابُ ، يجوز أن يريد يتوفاهن ملائكة الموت لقوله : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي } [ النحل : 28 ] أو حتّى يأخذهن الموت .
فإن قيل : إنكُمْ تفسِّرون قوله تعالى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } الثَّيِّبُ تُرْجَمُ والْبِكْرُ تجلد ، وهذا بعيد ؛ لأنَّ هذا السبيل عليها لا لها ، فإنَّ الرَّجم أغلظ من الحبس .
فالجوابُ : أنَّ النَّبي - عليه السَّلام - فَسَرَ السّبيل بذلك في قوله : " خذوا عني خذوا عني قَد جعل اللَّهُ لهن سبيلاً ، الثَّيِّبُ بالثَّيب جلد مائةٍ ورجم بالحجارة ، والبكرُ بالبكر جلد مائة وتغريب عام " فلما فَسَّرَ الرسول عليه السًّلام السبيل بذلك وجب القطع بِصِحَّته .
وأيضاً فله وجه في اللُّغة ، لأنَّ المخلص من الشَّيء هو سبيله ، سواء كان أخفّ أو أثقل .
قوله : " حتى يتوفاهن الموت " " حَتَّى " بمعنى " إلَى " فالفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " وهي متعلقة بقوله " فأمسكوهن " غاية له .
وقوله : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون " أوْ " عاطفة ، فيكون الجعل غايةً لإمساكهن أيضاً ، فينتصبُ " يجعل " بالعطف على { يَتَوَفَّاهُنَّ } .
والثَّاني : أن تكون " أو " بمعنى " إلاَّ " كالَّتِي في قولهم : " لألزمنك أو تقضيني حقي " على أحد المعنيين ، والفعل بعدها منصوب أيضاً بإضمار " أنْ " كقوله : [ الطويل ]
فَسِرْ في بِلاَدِ اللَّهِ وَالْتَمِسِ الْغِنى *** تَعِشْ ذَا يَسَارٍ أوْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا{[6946]}
أي : إلا أن تموت ، والفرق بين هذا الوجه والّذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غاية لإمساكهنَّ في البيوت .
قوله : { لَهُنَّ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ ب { يَجْعَلَ } .
والثَّاني : أنَّهُ متعلِّق بمحذوف ، لأنَّهُ حال من { سَبِيلاً } إذ{[6947]} هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدَِّمَ عليها فَنُصِبَ حالاً ، هذا إنْ جُعِلَ الجَعْلُ بمعنى الشِّرْع أو الخَلْق ، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير ، فيكون { لَهُنَّ } مفعولاً ثانياً قُدِّمَ على الأوَّلِ وهو { سَبِيلاً } ، وتقديمُه هنا واجب ؛ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديم هذا الخبر لكونه جارّاً ، والمبتدأ نكرة لا مسوغ لها غير ذلك .
روي عن علي أنَّهُ جَلَدَ شَرَاحَةَ الهمدانية يوم الخميس مائة ثمَّ رجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب اللَّه ورجمتها بسنَّة رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم{[6948]} وعامَّة العلماء على أنَّ الثَّيِّب لا تجلد مع الرّجم ؛ لأنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية{[6949]} ولم يجلدهما{[6950]} ، وقال : " يَا أنيسُ{[6951]} امْضِ إلَى امْرأةٍ هَذَا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجمْهَا " {[6952]} ولم يأمره بالجلد ، وعند أبي حنيفة التّغريب أيضا منسوخ في حقِّ البكر ، وأكثر أهل العلم على أنَّهُ ثابت ، وروى نافع عن ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وغَرَّبَ وأن أبا بكر ضَرَبَ وغَرَّبَ{[6953]} .
واختلفوا في الإمساك في البيت هل كان حَداً فنسخ أم كان حبساً ليظهر الْحَدُّ ؟ على قولين :
وقال ابن عبَّاسٍ والحسن : إنَّهُ{[6954]} حَدٌّ ، وزاد ابن زيد أنَّهُمْ منعوا من النِّكاحِ حتّى يموتوا عقوبة لهم ، لأنهم طلبوا النكاح من غير وجهه ، وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ كان حدّاً ، بل أشد غير أنَّ ذلك الحكم ثابت محدود إلى غاية ، وهو الأذى في الآية الأخرى على اختلاف التأوليين في أيّهما قبل ، وكلاهما ممدود إلى غاية ، وهو قول عليه السَّلام : " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سبيلاً " الحديث وهذا كقوله تعالى :
{ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] فإذا جاء اللَّيْلُ ارتفع حكمُ الصِّيام إلى غايته لا لنسخه ، هذا قول المحقِّقين المتأخِّرين ، فإن النَّسخ إنَّمَا يكون بين القولين المتعارضين اللَّذين لا يمكن الجمع بينهما والجمع ممكن بَيْنَ الحبس والتّغريب والجلد والرَّجم .
وقد قال بعضُ العلماء : إن الأذى والتغريب{[6955]} باقٍ مع الجلد ؛ لأنَّهُمَا لا يتعارضان فيحملان على شخص واحد فأمَّا الحبس فمنسوخ بالإجماع ، وإطلاق المتقدمين النّسخ على مثل هذا لا يجوز .
[ وقيل : إن المراد بقوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } المراد أن يحبس كل من الرجل والمرأة في مكانه حتى يدركهن الأجل بالموت ، أو يتبين الحمل فيجري عليهما حينئذ القصاص انتهى . والله أعلم ]{[6956]} .