قوله تعالى : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } .
أي : من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنَّتان في المنزلة وحسن المنظر ، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين ، وقيل : بالعكس ، ورجحه الزمخشري{[54591]} .
وقال : قوله : { مُدْهَامَّتَانِ } مع قوله في الأوليين : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } يدل على أن مرتبة هاتين دونهما ، وكذلك قوله في الأوليين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } مع قوله في هاتين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ؛ لأن النضخ دون الجري ، وقوله في الأوليين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } مع قوله في هاتين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ } ، وقوله في الأوليين : { فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها ، وعدم إدراك العقول إياها ، مع قوله في هاتين : «رفرفٍ خُضرٍ » دليل عليه .
وقال القرطبي{[54592]} : لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما ، فقال في الأوليين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } وفي الأخريين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ولم يقل : من كل فاكهة .
وقال في الأوليين : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو الدِّيباج .
وفي الأخريين : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [ الرحمان : 76 ] و«العَبْقَرِي » : الوشْي ، والديباج أعلى من الوشي .
والرفرف : كسرُ الخباء ، والفرش المعدة للاتِّكاء عليها أفضل من كسر الخباء .
وقال في الأوليين في صفة الحور : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } .
وفي الأخريين : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسانٌ } ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان .
وقال في الأوليين : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } .
وفي الأخريين : { مُدْهَامَّتَانِ } أي : خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان ، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما .
قال ابن الخطيب{[54593]} : ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله - تعالى - بهم ولأتباعهم لا لهم ، وإنما جعلها لهم إنعاماً عليهم ، أي : هاتان الأخريان لكم ، أسكنوا فيهما من تريدون .
وقيل : إن المراد بقوله : { وَمِن دُونِهِمَا } أي : دونهما في المكان ، كأنهم في جنتين ، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين ، بدليل قوله تعالى : { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الزمر : 20 ] .
وقال ابن عباس : ومن دونهما في الدّرج{[54594]} .
وقال ابن زيد : ومن دونهما في الفضل{[54595]} .
وقال ابن عباس : والجنات لمن خاف مقام ربه ، فيكون في الأوليين : النخل والشجر وفي الأخريين : الزرع والنبات{[54596]} .
وقيل : المراد من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث .
وقال ابن جريج : هي أربع جناتٍ منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان ، وعينان تجريان ، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان .
وقال أبو موسى الأشعري : جنتان منها للسَّابقين ، وجنتان من فضَّة للتابعين .
وقال عليه الصلاة والسلام : «جَنَّتانِ من فضَّةٍ ، آنيتُهمَا وما فيهمَا ، وجنَّتانِ مِنْ ذهبٍ آنيتُهُمَا وما فِيهَما ، وما بَيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أن يَنْظرُوا إلى ربِّهِمْ إلاَّ رِدَاءُ الكِبرياءِ على وجْهِهِ في جنَّة عدْنٍ »{[54597]} .
وقال الكسائي : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي : أمامهما وقبلهما .
قال البغوي{[54598]} : «يدلّ عليه قول الضحاك : الجَنَّتان الأوليان من ذهب وفضّة ، والأخريان من ياقُوت وزمرّد ، وهما أفضل من الأوليين » .
وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول » ، وقال : «ومعنى { ومن دونهما جنتان } أي : دون هذا إلى العرش ، أي : أقرب وأدنى إلى العرش » .
وقال مقاتل : الجنَّتان الأوليان : جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان : جنة الفردوس ، وجنة المأوى .
قوله تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } أي : خضراوان . قاله ابن عبَّاس وغيره .
والإدْهَام في اللغة : السواد وشدة الخضرة ، جُعلتا مدهامتان لشدة ريِّهما ، وهذا مشاهد بالنظر ، ولذلك قالوا : سواد «العراق » لكثرة شجره وزرعه{[54599]} .
ويقال : فرس أدهم وبعير أدهم ، وناقة دهماء ، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه ، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جَوْن ، وادهمَّ الفرس ادهماماً أي صار أدهم .
وادْهَامَّ الشيء ادهيماماً : أي : اسوداداً ، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد ، ويقال للأرض المعمورة : سواد يقال : سواد البلد .
وقال عليه الصلاة والسلام : «عَليْكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ ، ومن كَثَّرَ سوادَ قَوْمٍ فهُو مِنْهُمْ »{[54600]} .
قال ابن الخطيب : والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السَّواد ، فإنَّ الأبيض يقبل كل لون ، والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان .
قوله تعالى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } .
قال ابن عباس : فوَّارتان بالماء والنَّضْخُ - بالخاء المعجمة - أكثر من النَّضْحِ - بالحاء المهملة - لأن النَّضْح بالمهملة : الرَّشُّ والرشحُ ، وبالمعجمة : فورانُ الماء .
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : المعنى نضَّاختان بالخير والبركة{[54601]} .
وعن ابن مسعود وابن عباس أيضاً وأنس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر{[54602]} .
وقال سعيد بن جبير : بأنواع الفواكه والماء{[54603]} .
قوله تعالى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } .
قال بعض العلماء : ليس الرمان والنخل من الفاكهة ؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، وهذا ظاهر الكلام ، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما .
وقال الجمهور : هما من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النَّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة ، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلاً له كقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] .
قال شهاب الدين{[54604]} : وهذا يجوز ؛ لأن «فاكهة » عامًّا ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات ، وإنما هو مطلق ، ولكن لما كان صادقاً على النخل والرمان قيل فيه ذلك .
وقال القرطبي{[54605]} : إنما كررهما ؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البُرِّ عندنا ؛ لأن النخل عامةُ قوتهم ، والرُّمان كالتمرات ، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه ، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثِّمار التي يعجبون بها ، فإنما ذكر الفاكهة ، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما ، وكثرتهما عندهم في «المدينة » إلى «مكّة » إلى ما والاها من أرض «اليمن » ، فأخرجهما في الذكر من الفواكه ، وأفرد الفواكه على حدتها .
وقيل : أفردا بالذكر ؛ لأن النخل ثمرة : فاكهة وطعام .
والرُّمان : فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكّه .
ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رماناً ، أو رطباً لم يحنث{[54606]} .
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال ابن الخطيب{[54607]} : قوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } كقوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ؛ لأن الفاكهة أرضية وشجرية ، والأرضية كالبطِّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة ، والشجرية كالنَّخْل والرمان وغيرهما من الشجريات ، فقال : { مُدْهَامَّتَانِ } بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية ، وذكر منها نوعين{[54608]} وهما الرمان والرطب ؛ لأنهما متقابلان .
أحدهما : حلو ، والآخر : حامض .
وأحدهما : حار ، والآخر : بارد .
وأحدهما : فاكهة وغذاء ، والآخر : فاكهة ودواء .
وأحدهما : من فواكه البلاد الباردة ، والآخر : من فواكه البلاد الحارة .
وأحدهما : أشجار في غاية الطول والكبر ، والآخر : أشجاره بالضّد .
وأحدهما : ما يؤكل منه بارز ، وما لا يؤكل كامن ، فهما كالضدين ، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } [ الرحمان : 17 ] .
فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة
قال ابن عباس : الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المُقَتَّب{[54609]} .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجَنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكرمُها ذهب أحمر ، وسعفُها كسوة لأهل الجنة ، فيها ( مقطعاتهم ){[54610]} وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدِّلاء ، أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزُّبد ، ليس له عجم{[54611]} .
وفي رواية : كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وإن ماءها ليجري في غير أخدود ، والعنقود : اثنا عشر ذراعاً .