قوله : «متّكِئين » يجوز أن يكون حالاً من «منْ » في قوله { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وإنما جمع حملاً على معنى «مَنْ » بعد الإفراد حملاً على لفظها .
وقيل : حال عاملها محذوف ، أي : يتنعمون متكئين .
والعامة على : «فُرُش » بضمتين ، وأبو حيوة{[54544]} : بضمة وسكون ، وهي تخفيف منها .
قوله تعالى : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة والظاهر أنها صفة ل «فُرش » . وتقدم الكلام في «الاستبرق » في سورة الكهف{[54545]} .
وقال أبو البقاء : أصل الكلمة فعل على «اسْتَفْعَلَ » ، فلما سمي به قطعت همزته{[54546]} .
وقيل : هو أعجمي ، وقرئ{[54547]} بحذف الهمزة ، وكسر النون ، وهو سهو ؛ لأن ذلك لا يكون في الأسماء ، بل في المصادر والأفعال . انتهى . أما قوله : وهو سهو ؛ لأن ذلك لا يكون إلا في الأسماء . . . الخ .
يعني أن حذف الهمزة في الدَّرج لا يكون إلا في الأفعال والمصادر .
وأما الأسماء فلا تحذف همزاتها ؛ لأنها همزات قطع .
قال شهاب الدين{[54548]} : «وهذا الكلام أحق بأن يكون سهواً ؛ لأنا أولاً لا نسلم أن هذه القراءة من حذف همزة القطع إجراءً لها مجرى همزة الوصل ، وإنما ذلك من باب نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحركة الهمزة كانت كسرة ، فحركة النون حركة نقل لا حركة التقاء الساكنين » .
ثم قوله : «إلا في الأفعال والمصادر » ليس هذا الحَصْر بصحيح اتفاقاً لوجود ذلك في أسماء عشرة ليست بمصادر تقدم ذكرها في أول الكتاب .
قال ابن الخطيب{[54549]} : قوله : «عَلى فُرُشٍ » متعلق بما في «مُتَّكئينَ » ، كأنه يقول : يتَّكئون على فرش ، كما يقال : فلان اتكَّأ على عصاه ، أو على فخذيه ، وهذا لأن الفراش لا يتكأ عليه ، وإن كان متعلقاً بغيره فما هو ؟ .
فنقول : تقديره : يتفكّه الكائنون على فرش متكئين ، من غير بيان ما يتكئون عليه .
«الإسْتَبْرَقُ » : ما غلظ من الدِّيباج .
قال ابن مسعود ، وأبو هريرة : إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة{[54550]} ؟ .
وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر ؟ .
قال : هذا مما قال الله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }{[54551]} [ السجدة : 17 ] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم ، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله{[54552]} .
قال القرطبي : وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ظَواهِرُهَا نُورٌ يتلألأُ » وعن الحسن : البطائن هي الظَّواهر{[54553]} ، وهو قول الفراء .
روي عن قتادة : والعرب تقول للبطن : ظهراً{[54554]} ، فيقولون : هذا بطن السماء ، وظهر الأرض .
وقال الفرَّاء : قد تكون البطانة : الظهارة ، والظهارة : البطانة ؛ لأنَّ كل واحد منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه .
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا ، وقالوا : لا يكون هذا إلاَّ في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوماً كالحائط بينك وبين قوم ، وعلى ذلك أمر السماء .
وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر ؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظَّواهر{[54555]} .
قال ابن الخطيب{[54556]} : الإستبرق معرب ، وهو الدِّيْبَاج الثخين ، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم تصرفوا فيه ، وهو أن أصله بالفارسية «ستبرك » بمعنى : ثخين ، فزادوا في أوله همزة ، وبدلوا الكاف قافاً ، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع ، فصارت كالسكون ، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة ، ثم إنَّ البعض جعلوها همزة وصل ، وقالوا : «مِن اسْتَبْرَقٍ » . والأكثرون جعلوها همزة قطع ؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك ، لكن بحركة فاسدة ، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة ، وتمكنهم من تسكين الأول ؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السُّكون أقرب ، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ، ولا تبدل حركة بحركة .
وأما القافُ فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية ، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه ، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه «ستبرك » ب «مسجدك » ، إذا لحقت كاف الخطاب بهما ، فلو تركت الكاف قافاً أولاً ، ثم ألحقت الهمزة بأولها ، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا ؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها ، وذلك كله سهلٌ عليهم ، وبه يحصل الإعجاز ، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم ، وذكر الاتكاء ؛ لأنه حال الصَّحيح الفارغ القلب المتنعم ، بخلاف المريض والمهموم .
قوله تعالى : { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } مبتدأ وخبر ، وأصله : «دان » مثل «غاز » فأعل كإعلاله .
وقرأ عيسى{[54557]} بن عمر : «وجَنِي » بكسر النون .
وتوجيهها : أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف ، ثم حذف لالتقاء الساكنين ، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرئ{[54558]} : «وجِنَى » بكسر الجيم ، وهي لغة .
والجنى : ما يقطف من الثِّمار ، وهو «فَعْلٌ » بمعنى «مفعول » كالقَبْضِ والقنص .
قال القرطبي : «الجنى » : ما يُجْتنى من الشجر ، تقول : أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى ، وثمرة جنيٌّ على «فَعِيل » حين جُني .
قال ابن عبَّاس : تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائماً ، وإن شاء قاعداً ، وإن شاء مضطجعاً{[54559]} .
وقال قتادة : لا يرد يده بعد ، ولا شوك{[54560]} .
قال ابن الخطيب{[54561]} : جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكىء ، وفي الجنة هو متكىء ، والثمرة تتدلى إليه .
ثانيها : أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ، ويتحرك إليها ، وفي الآخرة هي تدنُو إليهم ، وتدور عليهم .
وثالثها : أنَّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها ، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد ، ومكان واحد .
قوله تعالى : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطّرف } .
فإن قيل : كيف تقدّم تثنيته في قوله : { فِيهِمَا عَيْنَانِ } ، و{ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } ثم أتى بضمير جمع ؟ .
فالجواب{[54562]} : أن أقلّ الجمع اثنان على قول ، وله شواهد تقدم أكثرها ، أو يقال : عائد إلى الجنَّات المدلول عليها بالجنتين .
أو يقول : كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة ، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل ، فأطلق على كل واحد منها جنة .
قال الزمخشري{[54563]} : «فِيهِنَّ » أي : في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين ، والفاكهة والفرش والجنى .
قال أبو حيان{[54564]} : «وفيه بُعْد » وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر ؛ لأن الاستعمال أن يقال : على الفراش كذا ، ولا يقال : في الفراش كذا إلا بتكلّف .
فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول : «فيهن » بحرف الظرفية ؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها .
وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازاً .
وقال الفراء : كل موضع في الجنة ، فلذلك صح أن يقال : «فيهن » .
والقاصرات : الحابسات الطَّرف : أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن .
ومعناه : قصرن ألحاظهن على أزواجهن .
مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ *** مِنَ الذّرِّ فوقَ الإتبِ مِنْهَا لأثَّرَا{[54565]}
و«قاصرات الطّرف » من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً ، إذ يقال : قصر طرفه على كذا ، وحذف متعلق القصر للعلم به ، أي : على أزواجهن .
وقيل : معناه : قاصرات طرف غيرهن عليهن إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن{[54566]} .
ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع ؛ لأنه في معنى المصدر{[54567]} ، من طرفت عيناه تطرف طرفاً ، يقال : ما فيها عين تطرف ، ثم سميت العين بذلك ، فأدى عن الواحد والجمع ، كقولهم : «قَومٌ عَدْل ، وصَوْم » . قاله القرطبي{[54568]} .
واعلم أن هذا الترتيب في غاية الحسن{[54569]} ؛ لأنه بيَّن أولاً المَسْكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزّه به وهو البستان ، والأعين الجارية ، ثم ذكر المأكول ، فقال : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، ثم ذكر موضع الرَّاحة بعد الأكل وهو الفرش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه .
قال ابن الخطيب{[54570]} : وقوله : { قَاصِرَاتُ الطرف } .
أي : نساء أو أزواج ، فحذف الموصوف لنكتة وهو أنه - تعالى - لم يذكرهُنّ باسم الجنس ، وهو النساء بل بالصفات ، فقال : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] ، { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } [ النبأ : 33 ] { قَاصِرَاتُ الطرف } ، { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ } [ الرحمان : 72 ] ولم يقل : نساء عُرباً ، ولا نساء قاصرات ، لوجهين :
إما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكر بأوصافهنّ ، وإما لأنهن لما كملن كأنهن خرجن من جنسهن .
وقوله تعالى : { قَاصِرَاتُ الطرف } يدل على عفّتهن ، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن ، فيحببن أزواجهن حبًّا يشغلهنَّ عن النَّظر إلى غيرهم ، ويدل أيضاً على الحياء ؛ لأن الطرف حركة الجفن ، والحييَّةُ لا تحرك جفنها ، ولا ترفع رأسها .
قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل «قاصرات » ، لأن إضافتها لفظية ، كقوله تعالى : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] .
يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[54571]}
وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالإضافة .
واختلف في هذ الحرف والذي بعده عن الكسائي ، فنقل عنه أنه يجيء في ضم أيهما شاء .
ونقل عنه الدوري ضم الأول فقط .
ونقل عنه أبو الحارث : ضم الثاني فقط ، وهما لغتان .
يقال : طَمَثَها يَطْمِثها ويَطْمُثها إذا جامعها{[54572]} ، لما روى أبو إسحاق السبيعي قال : كنت أصلي خلف أصحاب عليٍّ فأسمعهم يقولون : «لم أطْمِثْهُنّ » بالرفع ، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فأسمعهم يقولون : بكسر الميم ، وكان الكسائي يضم إحداهما ، ويكسر الأخرى لئلاّ يخرج عن هذين الأثرين{[54573]} .
وأصل «الطَّمْث » : الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر ، ثم أطلق على كل جماع طمث ، وإن لم يكن معه دم .
وقيل : «الطّمث » : دم الحيض ودم الجماع ، فيكون أصله من الدم .
ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قيل : لم يدمهن بالجماع إنس قبلهم ولا جانّ .
وقيل الطمث : المسّ الخالص{[54574]} .
وقال الجحدري ، وطلحة بن مصرف{[54575]} : «يطمثهن » بفتح الميم في الحرفين ، وهو شاذ ، إذ ليست عينه ولا لامه حرف حلق .
والضمير في «قبلهم » عائد على الأزواج الدال عليهم قوله : { قَاصِرَاتُ الطرف } ، أو الدَّال عليه «متكئين »{[54576]} .
قال القرطبي{[54577]} : «لم يطمثهن » أي : لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد .
قال الفراء : والطَّمْث : الافتضاض والنكاح بالتدمية ، طَمَثَها يَطْمِثُها طَمْثاً إذا افتضها .
ومنه قيل : امرأة طامث أي : حائض .
وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول : طمثها بمعنى وطىء على أيّ الوجوه كان ، إلا أن الفراء أعرف وأشهر .
وقَعْنَ إليَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي *** وهُنَّ أصحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ{[54578]}
وقال أبو عمرو : الطَّمث والمس ، وذلك في كل شيء يمسّ ، ويقال للمرتع : ما طمث ذلك المرتع قبله أحد ، وما طمث هذه النَّاقة حبل أي ما مسها عقال وقال المبرد : لم يذللهن إنس ولا جان ، والطمث : التذليل .
وقرأ الحسن{[54579]} : «جأن » بالهمزة .
فصل في أن الجن يجامعون ويدخلون الجنة كالإنس{[54580]}
دلّت هذه الآية على أن الجن تغشى كالإنس ، وتدخل الجنة ، ويكون لهم فيها جنيّات .
قال ضَمْرَة : للمؤمنين منهم أزواج من الحُور ، فالإنسيَّات للإنس ، والجنّيات للجن .
وقيل : معناه : لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجنّ في الجنَّة من الحور العين من الإنسيّات إنس ، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا . ذكره القشيري .
قال القرطبي{[54581]} : قد مضى القول في سورة «النمل » وفي «سبحان » وأنه جائز أن تطأ بنات بني آدم .
وقد قال مجاهد : إنه إذا جامع الرجل ، ولم يسم انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } يعلمك أن نساء الدنيا لم يطمثهن الجان . والحور العين قد برئن من ذلك العيب .
قال مقاتل قوله : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } ؛ لأنهن خلقن في الجنة ، فعلى قوله يكونون من حور الجنة .
وقال الشعبي : من نساء الدنيا لم يَمْسَسْهن منذ أنشئن خلقٌ ، وهو قول الكلبي ، أي لم يجامعهن في الخلق الذي فيه إنس ولا جان{[54582]} .