اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ} (46)

قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } .

يجوز أن يكون «مَقَام » مصدراً ، وأن يكون مكاناً .

فإن كان مصدراً ، فيحتمل أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : قيام ربه عليه ، وحفظه لأعماله من قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] . ويروى عن مجاهد ، قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله فيدعها من خوفه{[54525]} .

وأن يكون مضافاً لمفعوله ، والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يضيعها .

وإن كان مكاناً ، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة{[54526]} .

قيل : فيه مقام الله ، والمعنى : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب ، فنزلت المعصية ، ف «مقام » : مصدر بمعنى القيام .

فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة

قال القرطبي{[54527]} : هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته : إن لم أكُن من أهل الجنة فأنت طالق ، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياء منه . وقاله سفيان الثوري وأفتى به .

فصل في المراد بالجنتين

الظاهر أن الجنتين لخائف واحد .

قال محمد بن علي الترمذي : جنّة لخوفه من ربه ، وجنّة لتركه شهوته .

قال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض .

قال القرطبي{[54528]} : ويجوز أن يكون المقام للعبد ، ثم يضاف إلى الله ، وهو كالأجل في قوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 34 ] وقوله في موضع آخر : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] .

وقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ } أي : كل خائف له جنتان على حدة .

وقيل : جنتان لجميع الخائفين . والأول أظهر .

وقيل : جنة لخائف الإنس ، وأخرى لخائف الجن ، فيكون من باب التوزيع . وقيل : «مقام » هنا مُقحم ، والتقدير : «ولمن خاف ربه » ؛ وأنشد : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . ونَفَيْتُ عَنْهُ *** مَقَامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ{[54529]}

أي : نفيت الذئب وليس بجيد ، لأنَّ زيادة الاسم ليست بالسهلة .

وقيل : المراد ب «الجنتين » : جنّة للجزاء ، وأخرى زيادة على الجزاء .

وقيل : إن الجنتين : جنته التي خلقت له ، وجنة ورثها .

وقيل : إحدى الجنتين منزله ، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا .

وقيل : إحدى الجنتين مسكنه ، والأخرى بستانه .

وقيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور ، والأخرى أعاليها .

وقال مقاتل : هما جنة عدن وجنة النعيم .

وقال الفرَّاء{[54530]} : إنها جنة واحدة ، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي .

وقيل : جنة واحدة ، وإنما ثنّى تأكيداً كقوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] .

وأنكر القتبي هذا ، وقال : لا يجوز أن يقال : خزنة النار عشرون ، وإنما { تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] مراعاة لرءوس الآي .


[54525]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/602) عن مجاهد وإبراهيم النخعي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/202) عن مجاهد وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في "التوبة" وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر.
[54526]:ينظر: الدر المصون 6/246.
[54527]:الجامع لأحكام القرآن 17/115.
[54528]:السابق.
[54529]:تقدم.
[54530]:القرطبي 17/115.