لما قرر التَّوحْيد وأرْدَفَهُ بتَقْرير أمر النُّبُوَّةِ ، وتكلَّم في بعض تفَاريع هذا الأصْل ، عاد إلى ذِكْرِ الدَّلائل الدَّالَّةِ على وجُود الصَّانِع ، وكمال قدرته ، وحِكْمَتِه ، وعلمه ، تَنْبِيهاً على أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ من جميع المَبَاحِثِ العَقْلِيَّة ، والنقلية : مَعْرِفَةُ الله بذاته ، وصِفَاتِهِ ، وأفعاله .
قوله : " فَالِقُ الحَبِّ " : يجوز أن تكون الإضافة مَحْضَةً ، على أنَّها اسم فاعل بمعنى الماضي ؛ لأنَّ ذلك قد كان ، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله : " فَلَقَ " فعلاً ماضياً ، ويجُوز أن تكون الإضافةَ غير مَحْضَةٍ ، على أنه بِمَعنْى الحال والاستقبال ، وذلك على حِكَاية الحال ؛ فيكون " الحَبِّ " مجرُورَ اللَّفْظِ منصوب المحلِّ ، و " الفَلْقُ " : هو شَقُّ للشيء ، وقيده الرَّاغب{[14584]} بإبَانَةِ بَعْضِه من بَعْض ، والفَلَق المُطْمِئنُّ من الأرض بَيْن الرَّبْوَتين و " الفَلَق " من قوله -تعالى- : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [ الفلق :1 ] : ما علَّمه الله لمُوسَى - عليه السَّلام - حتى فَلَق البَحْر له .
وقيل : الصُّبْح ، وقيل : هي الأنْهَار المُشَار إليها بقوله -تعالى- : { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [ النمل :61 ] .
والفِلْقُ بالكَسْرِ بمعنى : المَفْلُوق كالنكث والنِّقْض ، ومنه : " سَمِعْتُه من فِلْقٍ منه " .
وقيل : الفِلْقُ العَجَبُ [ وقيل : ما يُتَعَجَّبُ منه .
قال الرَّاجِز في ذلك : [ الرجز ]
وَاعَجَباً لهذه الفَليقَه- *** -هَلْ تُذْهِبَنَّ القُوَباءَ الرِّيقَهْ{[14585]} ]{[14586]}
والفالِقُ والفَليق : ما بين الجَبَلَيْنِ ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير .
وفسَّر بعضهم " فالق " هنا ، بمعنى : " خَالِق " .
قيل : ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً ، وهذا لا يُلْتَفَتُ إليه ؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس ، والضَّحَّاك أيضاً ، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب ؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة : أن " فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ " بمعنى وَاحِد .
[ و " النَّوَى " ] : اسم جِنْس ، مُفْرَده " نواة " ، على حدّ " قَمْح وقَمْحَة " ، والنَّوَى : البُعْد أيْضاً .
ويُقال : نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا ، ولام " النَّواة " بانقلاب عَيْنِها واواً والأكثر التَّغَاير .
قال ابن عبَّاس ، والضَّحَّاك ، ومُقاتِل : { فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى } : خَالِقُ الحَبِّ{[14587]} .
قال الواحدي{[14588]} : ذهبُوا ب " فالق " مَذهب " فاطر " ، وقد تقدَّم عن الفرَّاءِ نَقْلُه ذلك لُغَةً .
وقال الحسن ، وقتادة ، والسُّدِّيُّ : معناه : الشَّق ، أي : يشق الحَبَّة من السُّنْبُلَةِ ، والنَّواة عن النَّخْلَةِ ، فيخرجُهَا مِنها{[14589]} .
وقال الزَّجَّاج : يَشُقُّ الحبة اليَابِسَة ، والنُّواة اليَابِسَة ، فيُخْرِجُ منها وَرَقاً أخْضَرَ .
وقال مُجَاهد{[14590]} : يعني الشَّقَّيْنِ اللذين فيهما ، أي : يَشُقُّ الحبَّ عن النَّباتِ ، ويخرجُه مِنْهُ ويشقُّ النَّوَى عن النَّخْلِ ، ويُخْرِجُهَا منها ، و " الحب " جمع " حبَّة " ، وهو اسمٌ لجميع البُذُورِ والحُبُوب من البُرِّ ، والشَّعير ، والذُّرَة ، وكل ما لَمْ يُؤكَل حَبَّا ، كالتَّمْرِ والمشمشِ ، والخوخ ، ونَحْوها .
وقال ابن الخطيب{[14591]} : إن الشيء قبل دُخُوله في الوُجُودِ ، كان مَعْدُوماً مَحْضاً ، ونَفْياً صِرْفاً ، فإذا أخْرَجَهُ المُوجِدُ من العدم إلى الوُجُود ، فكأنَّه بحسب التَّخَيُّلِ والتَّوَهُّم ، شَقَّ ذلِكَ العَدَمِ ، وفَلَقَهُ ، وأخْرَج ذلك المُحْدَثَ من ذَلِكَ الشَّقِّ ، فبهذا التَّأويل لا يَبْعد حَمْلُ الفَالِق على المُوجِدِ ، والمُحْدِث المُبْدِع .
فإذا عَرَفْت ذلك فَنَقُولُ : إذا وقَعت الحَبَّةُ ، أو النَّوَاةُ في الأرْضِ الرَّطبَةِ ، ثم مَرَّ عليه مُدَّةٌ ، أظْهَر اللَّه في تِلْكَ الحبَّة والنًّواة [ من أعْلاَها ومن أسْفلِها شقاً آخر ] أما الشَّقُّ الذي يَظْهَر في أعْلَى الحبَّة والنَّواة ؛ فإنه يَخْرُج منه الشَّجْرة الصَّاعِدَة إلى الهَوَاء .
وأما الشقُّ الذي أسْفَلَ تلك الحبَّة والنَّواة ؛ فيكون سَبَاً لاتِّصالِ الشَّجرة الصَّاعدة في الهواء بالشَّجرة الهابِطَة في الأرض . ثم هاهُنَا عجائب :
أحدها : أن طبيعَة تلك الشَّجرةِ إن كَانَتْ تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض ؛ فكَيْفَ تَوَلَّدَتْ منه الشَّجَرة الصَّاعِدة في الهواء ، وإن كانت تَقْتَضِي الصُّعُودَ في الهَوَاء ؛ فكيف تولدت مِنْهَا الشَّجرة الهابِطَة في الأرْضِ ، فلما تولَّدت منها هاتان الشَّجرتان ، مع أن الحسَّ والعَقْلَ يَشْهَد بكون طَبيعَة إحْدَى الشَّجَرتَيْن مُضَادُّ لِطَبيعَةِ الشَّجَرَةِ الأخرى ؛ علمنا أنَّ ذلك لَيْس بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ والخَاصيَّة ، بل بِمُقْتَضَى الإبْداع ، والإيجاد ، والتَّكْوين ، والاخْتِرَاع .
وثانيها : أن باطِنَ الأرْضِ صلْبٌ كَثيفٌ لا تَنْفُذُ المَسَلَّة القويَّة فيه ، ولا يَغُوصُ السِّكِّين الحادَّةُ القوي فيه ، مع أنّا نشاهد أطْرافَ تِلْكَ العُرُوقِ في غايَة الرِّقَّةِ واللَّطافَةِ ، بحيث لو دلكها الإنْسَان بأصْبُعِهِ بأدنى قُوَّةٍ ، لصَار كالمَاء ، ثم إنها مع غَايَة لَطَافتها تَقْوَى على النُّفُوذ في تِلْك الأرْضِ الصَّلْبَة ، والغَوصِ في باطِن تِلْكَ الأجْرَام الكَثِيفَة ، فحُصُول هذه القُوَّة الشَّديدة لِهذا الأجْرَامِ التي في غَايَةِ اللَّطَافةِ ، لا بُدَّ وأن يكون بِتَقْديرِ العَزيزِ الحَكِيم .
وثالثها : أنه يَتَوَلَّدُ من تِلْك النَّوَاة شَجَرَةٌ ، ويَحْصُل في تلك الشَّجَرَة طَبَائِعُ مُخْتَلِفَة ؛ فإن قشْرِ الخشبة له طَبيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ ، وفي داخل تلك القشرة جِرْمُ الخَشَبة ، وفي دَاخلِ تلك [ الخشبة ]{[14592]} جسمٌ رَخْوٌ لطيف يُشْبِهُ العِهْنَ المَنْفُوش ، ثم إنه يَتَولَّدُ من سَاقِ الشَّجَرة أغْصَانها ، ويتولَّدُ من الأغْصَان الأوْرَاقُ ، والأزهار ، والأنْوَار ، ثانياً ، ثم الفَاكِهَةُ ثَالِثاً ، ثم قد يَحْصُل للفاكَهِةَ أرْبَعة أنْواع من القُشُورِ كالجَوْزِ واللَّوز ، فإن قِشْرَه الأعلى هو الجِرْمُ الأخْضر ، وتحته جِرْمُ القِشْر الذي يُشْبِه الخَشَبَ ، وتحت القِشْر الَّذي كالغِشَاءِ الرَّقِيق المحيط باللُّبِّ ، وذلك اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ على جِرْم كَثِيف هو أيْضاً كالقِشْرَةِ ، وعلى جِرْم لَطِيفٍ هو كالُّدهْنِ ، وهو المَقْصُود الأصْلِيُّ ؛ فَتَوَلَّدُ هذه الأجْسَام المُخْتَلِفَة في طَبَائِعها ، وصِفَاتِهَا ، وألْوَانها ، وأشْكَالِها ، وطُعُومِها ، مع تساوي تأثيرات الطَّبائع ، والفُصُول الأربعة ، والطَّبائع الأربَع ، يَدُلُّ على أنَّها إنما حَدَثَتْ بِتَدْبِير العَلِيم ، الحكيم ، المُخْتَار ، القَادِر ، لا بتدبير الطَّبائع والعَنَاصِر .
ورابعها : أنَّك قد تجد الطَّبائع الأرْبَعة حَاصِلَةً في الفَاكِهَة الواحِدة ، فالأتْرُجُّ{[14593]} : قِشْرُه حَارُّ يَابِسٌ ، ولَحْمُه بارِدٌ رَطْبٌ ، وحَمَاضُهُ بارد يَابِسٌ ، وبذره حَارُّ يَابِسٌ ، وكذلك العِنبُ : قِشْرُهُ وعَجمه بارد يَابِس ، وماؤُه ولَحْمهُ حَارٌّ رَطْبِ ؛ فَتَولُّدُ هذه الطَّبائِعِ المُتَضَادَّةِ ، والخَوَاصِّ المُتَنَافِرة عن الحبَّة الواحدة ، لا يَكُوْن إلا بإيجاد الفَاعِل المُخْتَار .
وخامسها : أنَّك تجد أحْوَال الفَوَاكهِ مُخْتَلِفَةً ، فَبَعْضها يَكُون اللُّبُّ في الدَّاخلِ ، والقشر في الخَارج كما في الجَوْزِ واللَّوزِ ، وبَعْضُها تكون الفَاكِهَة في الخَارِجِ ، وتكون الخَشَبَة في الدَّاخِل ، كالخَوْخ والمِشْمِش ، وبَعْضُها تكون النَّوَاةُ لها لُبُّ كالَمِشْمِش ، والخَوْخ ، وبَعْضُها لا لُبَّ له كَنَوى التَّمْرِ ، وبَعْضُ الفَوَاكه لا يكُون لَهُ من الدَّاخلِ والخَارج قشر ، بل يكون مطلوباً [ كالتين ]{[14594]} فهذه أحوال مُخْتَلِفَةٌ في الفواكه .
وأيضاً الحُبُوب المُخْتَلِفَة في الأشْكَالِ والصُّورِ ، فَشَكْل الحِنْطَةِ كأنَّها نِصْفُ دَائِرِةٍ ، وشكل الحمّص على وَجْه آخر ، فهذه الأشْكَال المُخْتَلِفَة ، لا بُدَّ وأن تكون لأسْرار وحكم علم الخَالِق أنَّ تركِيبَها لا يكمل إلاَّ على هذا الشَّكْلِ .
وأيضاً : فقد تكون الثَّمَرَةُ الواحدة غذاءً لحيوان ، وسُمَّاً لحيوان آخر ؛ فاخْتلافُ هذه الصِّفاتِ والأحوال ، مع اتِّحاد الطَّبائعِ ، وتأثير الكواكب ، يَدُلُّ على أنَّها إنَّما حصلت بتخليق الفاعِل المُخْتَار ، الحكيم .
وسادسها : أنَّك تَجِدُ في الوَرَقَةِ الوَاحِدَة من أوْرَاقِ الشَّجَرَة خطاً واحداً مُسْتَقيماً في وَسطها ، كأنَّه بالنّسْبَة لتِلْك الوَرَقَةِ ، كالنُّخَاعِ بالنِّسْبَة إلى بَدَن الإنْسان ، فكأنه يَتَفرَّقُ من النُّخَاع أعْصابٌ كَثِيرَة يَمْنَةً ويَسْرَةً في بَدَن الإنْسان ، ثمَّ لا يزال يَنْفَصِلُ عن شُعَبِهِ شُعَبٌ أخرى ، ولا تَزَال تَسْتدقُّ حتى تَخْرُج عن الحِسِّ والإبْصَارِ لدقّتها ، فكذلك في تلك الورقة ينفصل عن ذلك الخَطِّ الكبير الوَسطانِيِّ خُيُوطٌ مختلفة ، وعن كلِّ مِنْهُمَا خيوطٌ أخرى أدَقُّ من الأولى ، ولا تَزَالَ كذلك حتَّى تخرج تِلْكَ الخُيُوطُ عن الحسِّ والبَصَرِ .
والخالق -تعالى- إنَّما فعل ذلك ، حتَّى أن القُوَى الجاريَةَ المَذْكُورةَ في جِرْم تِلْك الوَرَقَة ، تقوى على جَذْبِ الأجْزَاء اللَّطيفة الأرْضيَّة في تلك المَجَاري الضيّقة ، فالوُقُوفُ على عِنَايَة حِكْمَةِ الخَالِق في اتِّحادِ تلك الوَرَقَةِ الواحِدَة ، واخْتِلاف أشْكالِ الأوْرَاقِ ؛ تُؤذِنُ أنَّ عِنَايَتَه في اتِّحادِ حِكْمَة الشَّجرة أكْمَل .
وإذا عرَفْتَ أنَّه -تبارك وتعالى- إنَّما خَلَق النَّبَات لِمَصْلَحَةِ الحيوان ، عَلِمت أنَّ عنايته في تخليق الحيوانِ أكْمَلُ ؛ ولمَّا عَلِمْتَ أن المَقْصُود من تَخْلِيق الحيوانات [ هو الإنْسَانُ ]{[14595]} عَلِمْت أن عِنَايتَه في تَخْلِيقِ الإنْسَان أكْمَلُ .
ثمَّ إنه -تبارك وتعالى- لما خَلَقَ الحَيوان والنَّباتَ ليكون غذاءً ودواءً للإنْسان بِحَسَب جسدِهِ ، والمَقْصُود من تَخْلِيق الإنْسَان : هو المَعْرِفَةُ ، والمحبَّة ، والخدمة ؛ لقوله -تبارك وتعالى- :
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات :56 ] .
قوله : " يخرج " يَجُوز فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ ، فلا محَلَّ لها .
والثاني : أنَّها في موضع رفع خَبَراً ثانياً ، لأنَّ قوله : " مُخْرجُ " يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَعْطُوفٌ على " فَالِقِ " ، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ{[14596]} غيره ، أي : اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ ؛ وعلى هذا فيكون " يُخْرِجُ " على وَجْهِه ، وعلى كونه مُستَأنفاً فيَكُون مُعْتَرِضاً على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة .
والثاني : أنه يكون معطوفا على " يخرج " وهل يجعل الفعل في تأويل اسم [ ليصح عطف الاسم عليه ، أو يجعل الاسم بتأويل الفعل ؛ ليصح عطفه عليه ؟ احتمالان مبنيان على ما تقدم في " يُخرج " .
إن قلنا : إنه مستأنف فهو فعل غير مؤوّل باسم ؛ فيُردّ الاسم إلى معنى الفعل ، فكأن " مُخرج " في قوة " يخرج " .
وإن قلنا : أنه خبر ثان ل " إن " ، وهو بتأويل اسم ]{[14597]} واقع موقع خبر ثان ؛ فلذلك عطف عليه اسم صريح ، ومن عطف الاسم على الفعل لكون الفعل بتأويل اسم قول الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
فألفيتُه يوما يُبير عدوّه *** ومُجرٍ عطاء يستخفّ المعابرا{[14598]}
وقول القائل في ذلك : [ الرجز ]
يا رب بيضاء من العواهج *** أم صبيٍّ قد حبا أو دارج{[14599]}
بات يُغشّيها بعضْبٍ باتِر *** يقصد في أسوُقها وجائر{[14600]}
أي : مُبيرا ، أم صبي حاب ، قاصد .
قوله : " الحيّ " اسم لما يكون موصوفا بالحياة ، و " الميّتُ " اسم للخالي عن صفة الحياة ، وعلى هذا فالنبات لا يكون حيا ، وفي تفسير هذا الحي والميت قولان :
الأول : حمل هذا اللفظ على الحقيقة .
قال ابن عباس : أخرج من النطفة بشرا أحياء ، ثم يخرج من البشر الحيّ نطفة ميّتة ، ويخرج من البيضة فرّوجةً حيّة ، ثم يخرج من الدجاجة بيضةً ميّتةً{[14601]} .
القول الثاني : يُحمل على المجاز " يخرج " النبات الخفيّ من الحَبّ اليابس ، ويُخرج الحبّ اليابس من النبات الحي النامي .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يخرج المؤمن من الكافر ، كما في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام والكافر من المؤمن ، كما في حق ولد نوح عليه الصلاة والسلام والعاصي من المطيع وبالعكس .
وقرأ نافع{[14602]} ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " الميّت " مشدّدة الياء في الكلمتين ، والباقون بالتخفيف{[14603]} فيهما .
قوله : " ذلكم الله ربكم " قيل : معناه : ذلكم الله ، المبدئ ، الخالق ، النافع ، الضار ، المحيي ، المميت ، " فأنّى تؤفكون " : تصرفون عن الحق في إثبات القول بعبادة الأصنام .
وقيل : المراد : أنكم لما شاهدتم أنه تبارك وتعالى يُخرج الحي من الميّت ، ثم شاهدتم أنه أخرج البدن الحيّ من النطفة الميّتة ، فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحيّ من التراب الرّميم مرة أخرى ، والمقصود : الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنشر ؛ وأيضا الضّدّان متساويان في النسبة ، فكما لا يمتنع الانقلاب من أحد الضدين إلى الآخر ، وجب ألا يمتنع الانقلاب من الثاني إلى الأول ، فكما لا يمتنع حصول الموت بعد الموت ، وجب أيضا حصول الحياة بعد الموت ، وعلى كلا التقديرين ، فيخرج منه جواز البعث والنشر .
تَمسُّكُوا بقوله : " فأنَّى تُؤفَكُونَ " على أن فِعْلَ العَبْدِ ليس مخلوقاً لله -تعالى- لأنه لو خَلَق الإفْكَ فيه ، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك : " فأنَّى تُؤفَكُون " والجواب : أن القُدْرَةَ بالنسبة إلى الضِّدَّيْنِ مُتساويَةٌ ، فَتَرَجُّحُ أحد الطرفين على الآخر لا لمرجِّح ، فحينئذ لا يكون هذا الرُّجْحَانُ من الضِّدِّ ، بل يكون مَحْضَ الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له : " فأنَّى تُؤفَكُون " وأن تَوَقُّفَ ذلك المرجح على حصول مرجَّح ، وهو الداعية الجَازِمَةُ إلى الفعل ، فحصول تلك الدَّاعية يكون من الله -تعالى- وعند حُصُولها يجب الفعل ، ويلزمكم كما ألْزَمْتُمُونا{[14604]} .