قوله : " ونُقَلِّبُ " في هذه الجُمْلَة وجهان :
أحدهما : - ولم يقل الزَّمَخْشَري غيره- أنَّها وما عُطِف علَيْها من قوله : " ويذَرُهُم " عطف على " يُؤمِنُون " داخل في حُكْم " ومَا يُشْعِرُكُم " ، بمعنى : " وما يُشْعِرُكُم أنَّهم لا يُؤمِنُون " وما يشعركم أنَّا نُقِلِّب أفْئِدَتَهُم وأبصارهم " ، " وما يُشْعِرُكم أنَّا نَذَرُهم " وهذا يُسَاعده ما جَاء في التَّفْسير عن ابْنِ عَبَّاسٍ ، ومُجَاهد ، وابن زَيْد{[14958]} .
والثاني : أنَّهَا اسِتئْنَاف إخبار ، وجعله أبُو حيَّان الظَّاهر ، والظَّاهر ، ما تقدَّم .
" والأفْئِدة " : جمع فُؤاد ، وهو القَلْبُ ، ويطلق على العَقْل .
وقال الرَّاغب{[14959]} : الفُؤاد كالقَلْبِ ، لكن يُقالَ له : فؤاد إذا اعتبر به مَعْنَى : " التَّفَؤد " أي : التوقُّد " يقال : " فأدْتُ اللَّحم " : شَوَيْتُه " ومنه " لحم فَئِيد " أي : " مَشْويُّ " وظاهر هذا : أنَّ الفُؤاد غير القَلْبِ ، ويقال له : " فواد " بالواو الصَّريحة ، وهي بَدَل من الهَمْزَة ؛ لأنَّه تَخْفِيف قِيَاسيّ ، وبه يَقْرأ وَرْش فيه وفي نَظَائِره وصلاً وَوَقْفاً ، وحَمْزة وقفاً ويُجْمع على : أفْئِدَة ، وهو جَمْع مُنْقَاس ، نحو : " غُراب " ، و " أغْرِبة " ويجُوز " أفْيِدَة " بِيَاء بعد الهَمْزة ، وقرأ بِهَا هِشَام في سُورة إبْراهيم{[14960]} ، وسَيَأتي إن - شاء الله تعالى - .
قال ابن عبَّاس : يَعْني : ويحُول بينهم وبين الإيمان ، فلو جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة ، [ أي : كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره{[14961]} .
وقيل : كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة ]{[14962]} ؛ يعني : مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام- ؛ كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } [ القصص : 48 ] .
وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس : المرَّة الأولى : دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم ؛ كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] .
التَّقْلِيب ، والقَلْب وَاحِد : وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه ، وقدره ، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار : هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها على صِدْق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم [ إلاَّ أنه تعالى ]{[14963]} إذا قلب قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه ، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات{[14964]} .
قال الجُبَّائي{[14965]} : مَعْناه : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم في جَهَنَّم ، على لَهِيب النَّار وجَمْرِها ؛ لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّلأ مرّة في دَارِ الدُّنْيَا .
وقال الكَعْبِي{[14966]} : المُرَاد ب " ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم " : نفعل بهم كما نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف ، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ ؛ بسبب كُفْرهم .
وقال القَاضِي{[14967]} : المراد : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت ، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كما لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة .
أما قَول الجُبَّائيّ ؛ فمدفوع ؛ لأنه -تعالى- قال : " ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُمو أبْصَارهم " ثم عَطَفْ عليه ، وقال : " ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون " فقوله : " ونَذرُهُم " لي مما يَحْصُل في الآخِرة ، فكان سُوءاً للنَّظم في كلام اللَّه-تعالى- حيث قدَّم المُؤخَّر ، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة .
وأما قَوْل الكَعْبِي ؛ فَضَعِيف ؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه ؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسبن إضافته إلى الله تعالى في قوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } أي : نقلب القَلْب من حالة إلى حالة ، ومن صفة إلى صفة وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك ، بل القلب باقٍ على حالةِ واحِدَة إلاَّ أنَّه -تعالى- أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل .
إنما قدَّم اللَّه -تعالى- ذكر تَقْليب الأفْئِدة على تَقْليب الأبْصَار ؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [ فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْب ، انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى ، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب ]{[14968]} انصرف البَصَر عَنْه هو ، وإن كَانَ يُبْصِره بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الإبْصَار سَبَباً للوُقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الأنعام : 25 ] ، فملا كان المَعْدن هو القَلْب ، وأما السَّمع والبَصَر ؛ فهما آلتان لِلْقَلْب كانا لا مَحَالة تَابِعَيْن لأحوال القَلْب ، فلهذا السَّبَبَ وقع الابتداء بذِكر تَقَلُّب القُلُوب ههنا ، ثم أتْبَعَهُ بذكر السَّمْع .
قوله : " كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ " الكافُ في محلِّ نَصبٍ ، نَعْتاً لِمَصْدر مَحْذُوف و " ما " مَصْدريَّة والتقدير كما قال أبو البقاء{[14969]} : تقليبا ككفرهم عقوبة مساوية لمعصيتهم ، وقدّره الحوفيّ : فلا يؤمنون به إيمانا ثانيا ، كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوّل مرة [ وقيل : الكاف هُنَا للتَعْلِيل ، أي : " نقلب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم ؛ لعدم إيمانِهِم أوّل مرة " .
وقيل : في الكلام حَذْفٌ تقديره : " فلا يؤمنون به ثاني مَرَّة كَمَا لَم يُؤمِنوا به أوّل مرَّة ]{[14970]}
وقال بَعْضُ المفسِّرين : الكافُ هُنَا مَعْنَأها : المُجَازَاة ، أي : " لمَّا " لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة ، نُجازيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدتَهُم عن الهُدَى ، ونَطْبَع على قُلُوبهم " ، فكأنَّه قيل : ونحن نقَلِّب أفْئدتَهَم ؛ جَزَاءً لما لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة ، قاله ابن عطية{[14971]} قال أبو حيان{[14972]} وهُو مَعْنَى التَّعْلِيل الذي ذكرناه ، إلا أن تسْمِيتَه ذلك بالمُجازاة غَريبَة لا تُعْهدُ في كلام النَّحْويِّين .
قال شهاب الدِّين{[14973]} : قد سُبِقَ أبن عطيَّة إلى هذه العبارة .
قال الواحدي{[14974]} : وقال بَعْضُهم : معنى الكَافِ في " كَمَا لَمْ يُؤمِنوا " : معنى الجَزَاء ، ومَعْنَى الآية : ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم ، عُقُوبة لَهُم على تَركْ الإيمان في المرَّة الأولَى ، والهَاء في " به " تعود على الله - تعالى- ، أو على رسُوله ، أو على القُرآن ، أو على القَلْب المَدْلُول عليه بالفِعْل ، وهو أبْعَدُهَا ، و " أوّل مَرَّة " : نَصب على ظَرْف الزَّمان ، وقد تقدم تَحْقِيقُه .
وقرأ إبْرَاهيم النَّخْعي{[14975]} : " ويُقَلِّب- ويَذَرُهم- " بالياء ، والفَاعِل ضمير البَاري -تعالى- .
وقرأ الأعْمَش : " تُقَلَّبُ أفْئِدتهم وأبْصَارهم " على البِنَاء للمَفْعُول ، ورُفِع ما بعده على قِيَامه مقام الفاعل ، كذا رَوَاهَا الزَّمَخْشَري{[14976]} عنه ، والمشْهُور بهذه القِرَاءة ، إنَّما هو النَّخْعِيّ أيضا ، ورُوِي عَنْه : " ويَذَرْهُم " بياء الغيبة كما تقدَّم وسُكُون الرَّاء ، وخرَّج أبُو{[14977]} البَقَاء هذا التَّسْكِين على وجْهَين :
أحدهما : التَّسْكين لِتَوَالِي الحَرَكَات .
والثاني : أنه مَجْزُوم عَطْفاً على " يُؤمِنُوا " والمَعْنَى : جَزَاءً على كُفْرهم ، وأنَّه لم يَذَرْهُم في طُغْيَانهم ، بل بيَّن لهم ، وهذا الثّانِي ليس بَظَاهر ، و " يَعْمَهُون " في محلِّ حال ، أو مَفْعُوزل ثانٍ ، لأن التَّرْك بِمَعْنَى : التَّصْيِير .
قال عَطَاء : المَعْنَى : أخْذُلُهُم ، وأدعُهم في ضَلالِتِهم يتمادون{[14978]} .
قال الجُبَّائي{[14979]} : المَعْنَى : ونذرهم ، أي : لا نَحُول بَيْنَهم وبين اخْتِيَارِهم من ذَلِك لكن نمنعهم من ذلك بِمُعَاجَلة الهلاك وغيره ، لكنَّا نُمْهِلهم إنْ أقاَموا على طُغْيَانهم ، فذلك مِن قِبَلهم وهُو يُوجِب تأكيد الحُجَّة عَلَيْهم .
وقال أهل السُّنَّة{[14980]} : نقلِّب أفْئِدتَهُم من الحقِّ إلى البَاطِل ، ونتركهم في ذلك الطُّغْيَان ، وفي ذَلِكَ الضَّلال والعَمَه .
ويُقال للجُبَّائي : إنَّك تقول : إن إله العالم ما أرَاد بعباده إلاَّ الخَيْر والرَّحمة ، فلم تُرك هذا المِسْكِين حتى عَمِه في طُغْيَانه ؟ ولم لا يخلصه عَنْه على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر ؟ أقْصَى مَا فِي البابِ ؛ أنه إن فَعل به ذلِك لَمْ يكن مُسْتَحِقاً إلى الثَّواب ، فيفوتُه الاسْتِحْقَاق فقط ، وقد يَسْلَم من العِقَاب ، أمَّا إذا تَرَكَهُ في ذلك العَمَه مع عِلْمه بأنه يَمُوت عَلَيْه ، فإنه لا يَحْصُل له اسْتِحْقاق الثَّواب ، ويحصل له العِقَاب العَظيم الدَّائم ، فالمفْسَدة الحَاصلة عن خَلْق الإيمان فيه على سَبيل الإلْجَاء ، مَفْسَدة وَاحِدَة ؛ وهِيَ قوات اسْتِحْقَاق الثَّواب مع حُصُول العِقَاب الشَّديد ، والرَّحِيم المُحْسِن النَّاظر إلى عباده ، لا بُدَّ وأن يُرَجِّح الجَانِب الَّذِي هو أكْثَر إصْلاحاً ، وأقَل فَسَاداً ، فَعَلِمْنَا أنَّ إبْقَاء ذلك الكَافِر في ذلك العَمَه والطُّغْيَان ، يَقْدح في أنَّه لا يريد به إلاَّ الخير والإحسان{[14981]} .