اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةٗ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (37)

وهذا من شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا : لو كان رَسُولاً من عند الله فَهَلاَّ أنْزِلَ عليه آيَةٌ قَاهِرةٌ .

روي أنَّ بعض المُلْحِدَةِ طعن فقال : لو كان مُحَمَّدٌ قد أُوتِيَ بآية مُعْجِزَةٍ لما صَحَّ أن يقول أولئك الكُفَّار : لولا نُزِّل عليه آيَةٌ ، ولما قال : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَة } .

والجواب : أن القرآن مُعْجِزَةٌ قاهرة وبَيِّنَةٌ باهرة ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - تَحَدَّاهُمْ به فَعَجَزُوا عن مُعَارضَتِهِ ، فَدَّلَ على كونه مُعْجزاً .

فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف قالوا : { لولا نزِّلَ عليه آية من ربّه } .

فالجواب من وجوه :

الأول : لَعَلَّ القوم طَعَنُوا في كَوْنِ القرآن مُعْجِزَةً على سبيل اللِّجَاجِ والعِنَادِ ، وقالوا : إنه من جِنْسِ الكتب ، والكتاب لا يكون من جِنْسِ المُعْجِزَاتِ كالتَّوْرَاةِ والإنجيل والزَّبُورِ ، فلأجل هذه الشُّبْهَةِ طلبوا المُعْجِزَةَ .

الثاني : أنهم طلبوا مُعْجِزَاتٍ [ قاهرة ] من جِنْسِ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الأنبياء مثل " فلق البحر " و " إظْلال الجَبَل " و " إحْيَاء الموتى " .

الثالث : أنهم طلبوا مَزيد الآياتِ على سبيل التَّعَنُّتِ واللِّجَاجِ مثل إنْزَالِ الملائكة ، وإسْقاطِ السماء كِسَفاً .

الرابع : أن يكون المراد ما حَكَاهُ الله عن بعضهم في قوله : { وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال :32 ] .

ثم إنّه -تعالى- أجابهم بقوله : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَة } ، أي : أنّه قادرٌ على إيجاد ما طَلَبْتُمُوهُ ، وتحصيل ما اقْتَرَحْتُمُوهُ ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .

قوله : " من رَبِّه " فيها وجهان :

أحدهما : أنها متعلِّقة ب " نُزِّل " .

والثاني : أنها متعلِّقةٌ بمحذوف ؛ لأنها صِفَةٌ ل " آية " ، أي : آية [ كائنة ]{[13772]} من ربِّه .

وتقدَّم الكلامُ على " لَوْلاَ " وأنّها تَحْضِيضيَّةٌ .

فصل في المراد بالآية

معنى قوله تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : ما عليهم في إنزالها ، واختلفوا في تفسيرها على وُجُوه :

أحدها : أن يكون المُرَادُ أنه -تعالى- لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة ، وهي القرآن كان طلب الزيادة جارٍ مجرى التحكُّم والتَّعَنُّتِ الباطل ، وهو أنه سبحانه له الحُكْمُ والأمر ، فإن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ؛ لأن فَاعليَّتَهُ لا تكون إلا بحسب محض المَشِيئةِ على قول أهل السُّنَّة{[13773]} ، أو على وفقِ المصْلَحَةِ على قول المعتزلة{[13774]} ، وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفْقِ اقْتِرَاحاتِ الناس ومُطالبَاتِهِمْ ، فإن شاء أجابهم إليها ، وإن شاء لم يُجِبْهُمْ .

الثاني : أنه لمَّا ظهرت المعجزة القاهرةُ ، والدلالة الكافية لم يَبْقَ لهم عُذْرٌ ولا عِلَّةٌ ، فبعد ذلك لو أجَابَهُمُ الله -تعالى- إلى اقتراحهم فَلَعَلَّهُمْ يقترحون اقْتِرَاحاً ثانياًُ وثالثاً ورابعاً إلى ما لا نهاية له ، وذلك يفضي إلى ألاَّ يَسْتَقِرَّ الدليل ولا تَتِم الحجة ، فوجب سَدُّ هذا الباب في أوَّلِ الأمر والاكتفاء بما سَبَقَ من المعجزة القاهرة .

الثالث : أنّه -تعالى- لو أعطاهم ما طَلَبُوا من المُعْجِزَاتِ القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظُهُورهَا لاسْتَحَقُّوا عذاب الاسْتِئْصَالِ ، فاقتضت رَحْمَتُهُ صَوْنَهُمْ عن هذا البلاءِ ، فما أعطاهم هذا المطلوب رَحْمَةً منه -تعالى- لهم ، وإن كانوا لا يعلمون كَيْفِيَّةَ هذه الرحمة .

الرابع : أنَّه -تعالى- علم منهم أن طَلَبَهُمْ هذه المعجزات لأجْل العنادِ لا لطلب فائدةٍ ، وعلم أنه -تعالى- لو أعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ لم يؤمنوا ، فلهذا السبب ما أعطاهم ؛ لأنه لا فائدة في ذلك .


[13772]:سقط في ب.
[13773]:ينظر: الرازي 12/173.
[13774]:ينظر: المصدر السابق.