وهذا من تمام القصة الأولى بيَّن تعالى أنه أخذهم بالبَأسَاءِ والضرَّاءِ لعَلَّهُمْ يَتَضرَّعُوا ثُمَّ بيَّن في هذه الآية أنهم لما نَسُوا ما ذُكِّروا به من البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ فَتَحْنَا عليهم أبواب كُلِّ شيء ، ونَقَلْنَاهُمْ من البَأسَاءِ والضَّرَّاء إلى الرَّاحةِ والرَّخاءِ ، وأنواع الآلاَءِ والنعماءِ والمقصودُ أنه -تعالى- عَامَلَهُمْ بِتَسْلِيطِ المَكَارِهِ والشَّدَائِدِ تَارَةً ، فلم ينتفعوا به ، فَنَقَلَهُمْ من تلك الحَالَةِ إلى ضِدِّهَا ، وهو فتح أبواب الخيرات عليهم ، فلم ينتفعوا به أيضاً ، وهذا كما يَفْعَلُهُ الأبُ المُشْفِق بولَدِهِ يُخَاشِنُهُ تَارَةً ويُلاطِفُهُ أخرى طَلَباً لصَلاحِهِ .
قوله : " فَتَحْنَا " : قرأ الجمهور{[13890]} " فَتَحْنَا " مخفَّفاً ، وابن{[13891]} عامر " فَتَّحْنَا " مثقلاً ، والتثقيلُ مُؤذِن بالتكثير ؛ لأن بَعْدَهُ " أبواب " فناسب التكثير والتخفيف هو الأصل .
وقرأ ابن عامر أيضاً في " الأعراف " { لَفَتَحْنَا } [ الأعراف : 96 ] وفي " القمر " { فَفَتَحْنَا } [ القمر :11 ] بالتَّشديد أيضاً ، وشدَّدَ أيضاً
{ فُتِحَتْ يَأْجُوجُ } [ الأنبياء :96 ] والخلافُ أيضاً في { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } في " الزمر " في الموضعين [ آية 71 ، 73 ] ، { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ } في النبأ [ آية 19 ] فإن الجماعة{[13892]} وافقوا ابن عامر على تشديدها ، ولم يَقْرَأها بالتخفيف{[13893]} إلاَّ الكوفيون ، فقد جَرَى ابن عامر على نَمَطٍ واحدٍ في هذا الفِعْلِ ، والباقون شَدَّدُوا في المواضع الثلاثة المُشَارِ إليها ، وخَفَّفُوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين .
قوله : { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } " إذا " هي الفُجَائِيَّةُ ، وفيها ثلاثة مذاهب :
مذهب سيبويه{[13894]} أنها ظرف مكان ، ومذهبُ جماعة منهم الرّياشي أنها ظرف زمان ، ومذهب الكُوفيين{[13895]} أنها حرف ، فعلى تقدير كونها ظَرْفاً زماناً أو مكاناً النَّاصبُ لها خبر المبتدأ ، أي : أبْلِسُوا في مكان إقامَتِهِمْ أو في زمانها .
وقيل : هو الحزن المعترض من شدة البَأسِ ، ومنه اشْتُقَّ " إبْلِيسُ " وقد تقدَّم في موضعه ، وأنَّهُ هل هو أعجمي أم لا ؟
قال القرطبي{[13896]} : المُبْلسُ الباهت الحزين الآيسُ من الخير الذي لا يحيرُ جواباً لشدَّةِ ما نزل به من سُوءِ الحالِ .
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا *** قال : نَعَمْ أعْرِفُه وأبْلَسَا{[13897]}
أي : تحيّر لهَوْل ما رَأى ، ومن ذلك اشْتُقَّ اسم إبْلِيس ، وأبْلَسَ الرَّجُلُ سَكَتَ ، وأبْلَسَت النَّاقَةُ وهي مبلاسٌ إذا لم تَرْعَ من شِدَّةِ الضّبَعة يقال : ضَبِعَت النَّاقة تَضْبَع ضَبَعَةً وضَبْعاً إذا أرادت الفَحْلَ .
المعنى : فتحنا عليهم أبْوابَ كُلِّ شيء كان مُغْلَقاً عنهم من الخير ، أي : لمَّا قَسَتْ قلوبهم ولم يَتَفَطَّنُوا ونَسُوا ما ذكروا به من الوَعْظِ فَتَحْنَا عليهم أبْوَابَ الخير مكان البلاء والشِّدَّة حتى إذا فَرِحُوا بما أوتوا ، وهذا فَرَحُ بَطَرٍ مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا .
قال الحسنُ : في هذه الآية مَكْرٌ بالقوم وربِّ الكعبة{[13898]} .
وقال صلى الله عليه وسلم : " " إذَا رَأيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العَاصِي ، فإنَّ ذَلكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ " ثم قرأ هذه الآية . ثم قال " أخَذْنَاهُم بَغْتَةً " : فُجَاءةً أين ما كانوا " {[13899]} .
قال أهْلُ المعاني{[13900]} : وإنما أخذوا في حَالِ الرَّاحةِ والرَّخَاءِ ليكون أشَدَّ لِتحَسُّرِهِمْ على ما فَاتَهُمْ من حال السلامة والعَافِيَةِ ، " فإذا هم مُبْلسون " آيِسُونَ من كُلِّ خيرٍ .
قال الفرَّاء{[13901]} : المُبْلسُ الذي انقطع رَجَاؤهُ ، ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حُجَّتِهِ : قد أبْلِسَ .
وقال الزَّجَّاجُ{[13902]} : المُبْلسُ الشديد الحَسْرَةِ الحزين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.