قوله : { وَمَا مِن دَابَّةٍ } : " من " زائدة لوجود الشرطين ، وهي مبتدأ ، و " إلاَّ أمم " خَبَرُهَا مع ما عطف عليها .
وقوله : " في الأرض " صفة ل " دابة " ، فيجوز لك أن تجعلها في مَحَلِّ جرِّ باعتبار اللفظ ، وأن تجعلها في محل رفع باعتبار الموضع .
قوله : " ولا طائر " الجمهور{[13775]} على جرِّه نَسَقاً على لفظ " دابةٍ " .
وقرأ{[13776]} ابن أبي عَبْلَةَ برفعها نَسَقاً على موضعها .
وقرأ{[13777]} ابن عبَّاس " ولا طيرٍ " من غير ألف ، وقد تقدَّم الكلام فيه ، هل هو جَمْعٌ أو اسم جمع ؟
وقوله : { يطير } في قراءة الجمهور يَحْتَمِلُ أن يكون في مَحَلِّ جرّ باعتبار لَفْظِهِ ، ويحتمل أن يكون في مَحَلِّ رفع باعتبار موضعه .
وأمّا على قراءة ابن أبي عَبْلَةَ ، ففي مَحَلِّ رفع ليس إلاّ .
وفي قوله : " وَلاَ طَائر " ذكر خاصّ بعد عامٍّ ؛ لأن الدَّابَّةَ تشتمل على كُلِّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره ، فهو كقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة :98 ] وفيه نظر ؛ إذ المُقَابَلَةُ هنا تنفي أن تكون الدَّابة تشمل الطائر .
قوله : " بِجَنَاحَيْهِ " فيه قولان :
أحدهما : أن " الباء " متعلّقة ب { يطير } ، وتكون " الباء " للاسْتِعَانَةِ .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ ، وهي حالٌ مؤكّدة كما يقال : " نظرت عيني " ، وفيها رفع مجازٍ يُتَوَهَّمُ ؛ لأن الطَّيرانَ يُسْتَعَارُ في السرعة قال : [ البسيط ]
قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ *** طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانَا{[13778]}
ويطلق الطَّيْرُ على العمل ، قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء :13 ] .
وقوله : " إلاّ أمم " خَبَرُ المبتدأ ، وجُمِعَ وإن لم يتقدَّمهُ إلاَّ شيئان ؛ لأن المراد بهما الجِنْسُ .
و " أمثالكم " صفة ل " أمم " ، يعني أمثالهم في الأرزاقِ والآجالِ ، والموت والحياة ، والحشر والنشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها .
وقيل : في معرفة الله وعبادته .
وقال مُجاهد : أصْنَافٌ مصنّفةٌ تُعْرَفُ بأسمائها ، يريد أن كلّ جنسٍ من الحيوان أمَّةٌ : فالطير أمَّة ، والدَّوابُّ أمَّة ، والسِّبَاع{[13779]} أمة ، تعرف بأسمائها مثل بَنِي آدَمَ يُعْرَفُون بأسمائهم ، يقال : الإنس والناس ، قال عليه الصلاة والسلام : " لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أمَّةٌ من الأمَم لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فاقْتُلُوا مِنْهَا أسْوَدَ بهيمٍ " {[13780]} .
وقيل : أمثالكم يَفْقَهُ بعضهم عن بعض .
وجه النظم أنه -تعالى- بَيَّنَ في الآية أنَّه لو كان إنْزَالُ سائر المعجزات مَصْلَحَةً لهم لفعلها إلاَّ أنه لمَّا لم يَكُنْ إظهارها مَصْلَحَةً للمكلَّفين لم يظهرها ، وهذا الجوابُ إنما يَتِمُّ إذا ثبت أنه تعالى يُرَاعي مصالحَ المكلَّفين ، ويَتفضَّلُ عليهم بذلك ، فبيَّن ذلك وقرَّره بأن قال : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ ، وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في وصول فَضْلِ الله -تعالى- وعنايتِهِ ، ورحمته ، وإحسانه إليهم ، وذلك كالأمر المُشَاهَدِ المَحْسُوسِ ، فإذا كانت آثار عِنَايَتِهِ واصِلَةً إلى جميع الحيواناتِ ، فلو كان إظهار هذه المُعْجِزَاتِ مَصْلَحةً للمكلفين لفعلها ولم يَبْخَلْ بها ؛ لأنه لم يَبْخَلْ على شيءٍ من الحيوانات بمَصَالِحهَا ومَنَافعِهَا ؛ يَدُلُّ ذلك على أنَّه -تعالى- لم يظهر تلك المعجزات ؛ لأن إظهارها يُخِلُّ بمصالحِ المكلّفين{[13781]} .
وقال القاضي : إنّه -تعالى- لمّا قَدَّمَ ذكر الكُفَّار وبيَّن أنهم يرجعون إلى الله ، ويحشرون - بيَّن أيضاً بعدهُ - بقوله : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ ، وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } - في أنهم يحشرون ، والمقصود بيان أن الحَشْرَ والبَعْثَ كما هو حَاصِلٌ في حقكم ، كذلك هو حاصل في حق البَهَائِمِ{[13782]} .
فصل في أسئلة على الآية والإجابة عنها
حصر الحيوان في هاتين الصفتين ، وهما : إمَّا أن يَدبّ ، وإمّا أن يطير .
الأول : من الحيوانات ما لا يَدْخُلُ في هذيْنِ القِسْمَيْنِ مثل حيتانِ البَحْرِ ، وسائر ما يَسْبَحُ في الماءِ ، ويعيش فيه .
والجواب لا بد أنْ يُوصَفَ بأنها دَابَّةٌ ، من حيث إنها تَدبُّ في الماء ؛ لأن سَبْحَهَا في الماء كَسَبْحِ الطير في الهواءِ ، إلا أن وَصْفَهَا بالدَّبِّ أقرب إلى اللُّغَةِ من وصفها بالطيران .
السؤال الثاني : ما الفَائِدَةُ في تقييد الدَّابَّةِ بكونها في الأرض ؟
أحدهما : أنَّه خَصَّ ما في الأرض بالذِّكْرِ دون ما في السماء احْتِجَاجاً بالأظْهَرِ ؛ لأن ما في السماء وإن كان مَخْلُوقاً مثلنا فغير ظَاهِرٍ .
والثاني : أن المقصود من ذِكْرِ هذا الكلام أن عناية الله لمَّا كانت حَاصِلَةً في هذه الحيوانات ، فلو كان إظهارُ المعجزات القاهِرَةِ مَصْلَحَةً لما منع الله من إظهارها ، وهذا المقْصُودُ إنما يَتِمُّ بذِكْرِ من كان أدْوَنَ مرتبة من الإنسان ، لا بِذِكْرِ من كان أعْلَى حالاً منه ، فلهذا المعنى قَيَّد الدَّابَّة بكونها في الأرض .
السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله : " يطير بجَنَاحَيْهِ " مع أن كل طائر فإنما يطير بجناحيه ؟
والجواب : ما تقدَّم من ذِكْرِ التوكيد أو رفع تَوَهُّمِ المجازِ .
وقيل : إنه -تعالى- [ قال ]{[13783]} في صفة الملائكة { رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } [ فاطر :1 ] ، فذكر [ هاهنا ]{[13784]} قوله : " بِجَنَاحَيْهِ " ليخرج عنه الملائكة ، لِمَا بينَّا أن المقصود من هذا الكلامِ إنما يَتمُّ بذكر من كان أدْوَنَ حالاً من الإنسان لا بِذِكْرِ من كان أعْلَى منه .
السؤال الرابع : كيف قال : " إلاَّ أممٌ " مع إفراد الدَّابَّةِ والطائر ؟
والجواب : ما تقدَّم من إرادةِ الجِنْسِ .
قوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء } : في المراد ب " الكتاب " قولان :
الأول : المُرَاد به اللَّوْحُ المَحْفُوظُ ، قال عليه الصلاة والسلام :
جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ " {[13785]} ، وعلى هذا فالعموم ظاهرٌ ، لأن الله -تعالى- أثْبَتَ ما كان وما يكون فيه .
والثاني : المراد به القرآن ؛ لأنَّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم المُفْرَدِ انْصَرَفَ إلى المفهوم السَّابق ، وهو في هذه الآية القرآن .
وعلى هذا فهل العُمُومُ بَاقٍ ؟ منهم من قال : نعم وإن جميع الأشياء مُثْبَتَةٌ في القرآن إمَّا بالصريح ، وإمَّا بالإيمَاءِ{[13786]} .
فإن قيل : كيف قال الله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } مع أنه ليس فيه تَفَاصيل علم الطب وعلم الحِسَاب ، ولا تَفَاصِيلُ كثيرٍ من المباحثِ والعلوم ، ولا تفاصيل مذاهبِ النَّاسِ ، ودلائلهم في علم الأصولِ والفروع ؟
والجواب أن قوله { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } يجب أن يكون مَخْصُوصاً ببيانِ الأشياءِ التي يجب مَعْرَفَتُهَا والإحَاطَةُ بها ، واعلم أن علم الأصُول مَوْجُودٌ بتمامه في القرآن على أبْلَغِ الوجوه ، وأما تفاصِيلُ الأقاويل والمذاهب ، فلا حاجة إليها .
وأمّا تفاصيل الفروع فالعُلَمَاءُ قالوا : إن القرآن دَلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّةٌ في الشريعة ، وإذا كان كذلك فَكُلُّ ما دَلَّ عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ } [ الحشر :7 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي " {[13787]} .
وروي أن ابن مسْعُودٍ كان يقول : " مَا لِي لاَ ألْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ " {[13788]} يعني : الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ ، والوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ ، وروي أنَّ امرأة قرأت جميع القرآن ثم أتَتْهُ فقالت : يا ابن أمّ عَبْدٍ ، تَلَوْتُ البارحة ما بين الدَّفَّتيْنِ ، فلم أجد فيه لَعْنَ الواشمة ، والمستوشمة ، فقال : لو تَلَوْتيه لوجدْتيهِ ، قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }
[ الحشر :7 ] ، وإن مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : " لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ " {[13789]} .
وقال ابن الخطيب{[13790]} : يمكن وجدانُ هذا المعنى في كتاب الله في قوله تعالى في سورة " النساء " حين عَدَّدَ قبائح الشيطان قال :
{ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [ النساء :119 ] فَظَاهِرُ هذه الآية يقتضي أن تغيير الخَلْقِ يوجب اللَّعْنَ .
وذكر الواحدي{[13791]} أن الشَّافعي جلس في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شَيْءٍ إلاّ أجبتكم فيه من كتاب الله ، فقال رجل : ما تقول في المُحْرِمِ إذا قتل الزَّنْبُورَ ؟ ، فقال : لا شَيْءَ عليه ، فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ ، فقال : قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر :7 ] ، ثم ذكر سَنَداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي " {[13792]} ، ثم ذكر إسْنَاداً إلى عُمَرَ أنه قال : " لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ " {[13793]} .
قال الواحديُّ{[13794]} : فأجابه من كتاب الله مُسْتنبطاً بثلاث درجات ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العسيفِ : " والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ " {[13795]} ثم قضى بالجَلْدِ والتَّغْرِيبِ على العسيفِ ، وبالرجم على المَرْأةِ إذا اعترفت .
قال الواحدي{[13796]} : وليس لِلْجَلْدِ والتَّغْريبِ ذكرٌ في نَصِّ الكتاب{[13797]} ، وهذا يَدُلُّ على أن ما جاءكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عَيْنُ كتاب الله . قال تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ، وعند هذا يَصِحُّ قوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء } والله أعلم .
وقال بعضهم : إن هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ ، والمعنى ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ .
قوله : " من شيءٍ " فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن " مِنْ " زائدة في المفعول به ، والتقدير : ما فرَّطْنا شَيْئاً ، وتضمن " فرطنا " معنى تركنا وأغفَلْنَا ، والمعنى ما أغفلنا ، ولا تركنا شيئاً .
والثاني : أن " مِنْ " تَبْعيضيَّةٌ ، أي : ما تركنا ولا أغْفَلْنَا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المُكَلِّفُ .
الثالث : أن " من شيء " في مَحَلِّ نصب على المصدرِ ، و " من " زائدة فيه أيضاً .
ولم يُجزْ أبو البقاء{[13798]} غيره ، فإنه قال : " من " زائدة ، و " شيء " هنا واقع موقع المصدرِ ، أي تفريطاً .
وعلى هذا التَّأويل لا يبقى في الآية حُجَّةٌ لمن ظنَّ أن الكتاب يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صَريحاً ، ونظير ذلك : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران :120 ] .
ولا يجوز أن يكون مفعولاً به ؛ لأن " فرَّطْنَا " لا يتعدَّى بنفسه ، بل بحرف الجرِّ ، وقد عُدِّيَتْ إلى " الكتاب " ب " في " ، فلا يتعدَّى بحرف آخر ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ؛ لأن المَعْنَى على خلافه ، فبان أن التأويل ما ذكرنا . انتهى .
قوله : " يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صريحاً " لم يقل به أحدٌ ؛ لأنه مُكَابرةٌ في الضروريات{[13799]} .
وقرأ الأعرج وعلقمة : " فَرَطْنَا " مُخَفَّفاً ، فقيل : هما بِمَعْنًى وعن النقاش : فَرَطنا : أخَّرْنا ، كما قالوا : " فرط الله عنك المرض " أي : أزاله .
قوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون } : قال ابن عبَّاسٍ ، والضحاك : حشرها موتها{[13800]} .
وقال أبو هريرة : يحشر الله الخَلْقَ كلهم يوم القيامةِ الإنس والجن والبهائم والدَّوَابَّ والطير وكُلَّ شيء ، فيأخذ للجمَّاءِ من القَرْنَاءِ ، ثم يقول كوني تُراباً{[13801]} ، فحينئذٍ يَتَمَنَّى الكافر ويقول :
{ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابا } [ النبأ :40 ] ، ويتأكد هذا بقوله : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير :5 ] .