قوله تعالى : { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ، فبأي آلاء ربكما تكذبان } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها ؟ نقول : إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادي به يوم القيامة ، فكأنه تعالى قال : يوم ( يرسل عليكما شواظ من نار ) فلا يبقى لكما انتصار إن استطعتما النفوذ فانفذا ، وإن قلنا : إن النداء في الدنيا ، فنقول قوله : { إن استطعتم } إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من الله فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم ، فكأنه قال : إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولا بد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن ، لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده ، ولا سبيل إليهما .
المسألة الثانية : كيف ثنى الضمير في قوله : { عليكما } مع أنه جمع قبله بقوله : { إن استطعتم } والخطاب مع الطائفتين وقال : { فلا تنتصران } وقال من قبل : { لا تنفذون إلا بسلطان } نقول : فيه لطيفة ، وهي أن قوله : { إن استطعتم } لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى ، فقال : إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا ، ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر ، فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان ، وأما قوله تعالى : { يرسل عليكما } فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار ، فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلا ، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال : لا فرار لكم قبل الوقوع ، ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام ( والجواب الثاني ) من حيث اللفظ ، هو أن الخطاب مع المعشر فقوله : { إن استطعتم } أيها المعشر وقوله : { يرسل عليكما } ليس خطابا مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكورا بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما } وهذا يتأيد بقوله تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } وحيث صرح بالنداء جمع الضمير ، وقال بعد ذلك : { فبأي آلاء ربكما } حيث لم يصرح بالنداء .
المسألة الثالثة : ما الشواظ وما النحاس ؟ نقول : الشواظ لهب النار وهو لسانه ، وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب ، والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد ، وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار ، وأما النحاس ففيه وجهان ، أحدهما الدخان ، والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا ، ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد . وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره ، والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضا . فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة ، والجن خفاف والنحاس ثقيل ، وكذلك إن قلنا : المراد من النحاس الدخان ، ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح .
المسألة الرابعة : من قرأ { نحاس } بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) تقديره شيء من نحاس كقولهم : تقلدت سيفا ورمحا ( وثانيهما ) : وهو الأظهر أن يقول : الشواظ لم يكن إلا عندما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية ، وهو الدخان ، فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان ، وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب ، فإن قيل : على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان ، نقول : العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى ، لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور ، فلا يكون لها لهيب وهيبة ، وقوله تعالى : { فلا تنتصران } نفي لجميع أنواع الانتصار ، فلا ينتصر أحدهما بالآخر ، ولا هما بغيرهما ، وإن كان الكفار يقولون في الدنيا : { نحن جميع منتصر } والانتصار التلبس بالنصرة ، يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها ، ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان ، والذي يقال فيه : إن الانتصار بمعنى الامتناع : { فلا تنتصران } بمعنى لا تمتنعان ، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبسا بالنصرة فهو ممتنع لذلك .
35- يصب عليكما لهب من نار ونحاس مذاب ، فلا تقدران على دفع هذا العذاب{[215]} .
النحاس : الدخان لا لهب فيه . وهذا من بعض معانيه .
ثم بين بعض أهوال الساعة بقوله تعالى :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }
يُصَبّ عليكما لهبٌ من نارٍ ونحاسٌ مذاب ، فلا تقدران على دفع هذا العذاب ، بل يُساق المجرمون إلى الحشْر سَوقاً نعوذ بالله منه .
قرأ ابن كثير : شواظ بكسر الشين ، والباقون : شواظ بضم الشين .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : ونحاس بالجر ، والباقون : ونحاس بالرفع .
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما { شُوَاظٌ } هو اللهب الخالص كما روى عن ابن عباس ، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان
: هجوتك فاختضعت لنا بذل *** بقافية تأجج ( كالشواظ )
/ وقيل : اللهب المختلط بالدخان ، وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع ، وقيل : اللهب الأخضر ، وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب ، وقيل : هو النار والدخان جميعاً ، وقرأ عيسى . وابن كثير . وشبل { شُوَاظٌ } بكسر الشين { مّن نَّارٍ } متعلق بيرسل أو يمضمر هو صفة لشواظ و { مِنْ } ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم { وَنُحَاسٌ } هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى ، أو النابغة الجعدي
: تضيء كضوء السراج السلي *** ط لم يجعل الله فيه ( نحاسا )
وروي عنه أيضاً ، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب ، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال : وذلك لشبهه في اللون بالنحاس ، وقرأ ابن أبي إسحق . والنخعي . وابن كثير . وأبو عمرو { وَنُحَاسٌ } بالجر على أنه عطف على نار ، وقيل : على { شُوَاظٌ } وجر للجوار فلا تغفل .
وقرأ الكلبي . وطلحة . ومجاهد بالجر أيضاً لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه ، وقرأ ابن جبير ونحس كما تقول يوم نحس ، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة . وابن أبي إسحق أيضاً ونحس مضارعاً ، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب ، وعن ابن أبي إسحق أيضاً ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير . وحنظلة بن عثمان ونحس بفتح النون وكسر السين ، والحسن . وإسمعيل ونحس بضمتين والكسر ، وهو جمع نحاس كلحاف ولحف ، وقرأ زيد بن علي نرسل بالنون شواظاً بالنصب ونحاساً كذلك عطفاً على شواظاً { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضاً .
أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية : تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القدرة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا ، وقال في البحر : المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه .
{ 35-36 } { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم{[953]} فقال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شواظ من نار [ ونحاس فلا تنصران فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي : يرسل عليكما ] لهب صاف من النار .
{ ونحاس } وهو اللهب ، الذي قد خالطه الدخان ، والمعنى أن هذين الأمرين الفظيعين يرسلان عليكما يا معشر الجن والإنس ، ويحيطان بكما فلا تنتصران ، لا بناصر من أنفسكم ، ولا بأحد ينصركم من دون الله .