الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ} (35)

قوله تعالى : " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس " أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار ، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ . وقيل : ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار . وقيل : أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب . وقيل : يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون " يا معشر الجن والإنس " ، فتلك النار قوله : " يرسل عليكما شواظ من نار " والشواظ في قول ابن عباس وغيره اللهب الذي لا دخان له . والنحاس : الدخان الذي لا لهب فيه ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه ، كذا وقع في تفسير الثعلبي والماوردي ابن أبي الصلت ، وفي " الصحاح " و " الوقف والابتداء " لابن الباري : أمية بن خلف قال :

ألا من مبلغٍ حسانَ عني *** مُغَلْغَةً تَدُبُّ إلى عُكَاظِ

أليس أبوك فينا كان قَيْناً *** لدَى القَيْنَاتِ فَسْلاً في الحِفَاظِ

يَمَانِيًا يَظَلُّ يَشُدُّ كِيراً *** ويَنْفُخُ دَائِباً لَهَبَ الشُّوَاظِ

فأجابه حسان رضي الله عنه فقال :

هجوتك فاخْتَضَعْتَ لها بِذُلٍّ *** بقافيةٍ تأجَّجُ كالشُّواظِ{[14559]}

وقال رؤبة :

إن لهم من وقْعِنَا أقْيَاظَا *** ونارَ حرب تُسْعِرُ الشُّوَاظَا

وقال مجاهد : الشواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار . الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب . وقال سعيد بن جبير . وقد قيل : إن الشواظ النار والدخان جميعا ، قاله عمرو وحكاه الأخفش عن بعض العرب . وقرأ ابن كثير " شواظ " بكسر الشين . الباقون بالضم وهما لغتان ، مثل صوار وصوار لقطيع البقر . " ونحاس " قراءة العامة " ونحاس " بالرفع عطف على " شواظ " . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو " ونحاس " بالخفض عطفا على النار . قال المهدوي : من قال إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في " النحاس " على هذا بين . فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال : " يرسل عليكما شواظ من نار " وشيء من نحاس ، فشيء معطوف على شواظ ، ومن نحاس جملة هي صفة لشيء ، وحذف شيء ، وحذفت من لتقدم ذكرها في " من نار " كما حذفت على من قولهم : على من تنزل أنزل أي{[14560]} عليه . فيكون " نحاس " على هذا مجرورا بمن المحذوفة .

وعن مجاهد وحميد وعكرمة وأبي العالية " ونحاس " بكسر النون لغتان كالشواظ والشواظ . والنحاس بالكسر أيضا الطبيعة والأصل ، يقال : فلان كريم النحاس والنحاس أيضا بالضم أي كريم النِّجَار{[14561]} . وعن مسلم بن جندب " ونحس " بالرفع . وعن حنظلة بن مرة بن النعمان الأنصاري " ونحس " بالجر عطف على نار . ويجوز أن يكون " ونحاس " بالكسر جمع نحس كصعب وصعاب " ونحس " بالرفع عطف على " شواظ " وعن الحسن " ونحس " بالضم فيهما{[14562]} جمع نحس . ويجوز أن يكون أصله ونحوس فقصر بحذف واوه حسب ما تقدم عند قوله : " وبالنجم هم يهتدون{[14563]} " [ النحل : 16 ] . وعن عبدالرحمن بن أبي بكرة " ونحس " بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين من حس يحس حسا إذا استأصل ، ومنه قوله تعالى : " إذ تحسونهم بإذنه{[14564]} " [ آل عمران : 152 ] والمعنى ونقتل بالعذاب . وعلى القراءة الأولى " ونحاس " فهو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم ، قاله مجاهد وقتادة ، وروي عن ابن عباس . وعن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير أن النحاس الدخان الذي لا لهب فيه ، وهو معنى قول الخليل ، وهو معروف في كلام العرب بهذا المعنى ، قال نابغة بني جعدة :

يضيءُ كضوءِ سراجِ السَّلِي *** طِ لم يجعلِ الله فيهِ نُحَاسَا

قال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول السليط دهن السمسم بالشام ولا دخان فيه . وقال مقاتل : هي خمسة أنهار من صفر مذاب ، تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار . وقال ابن مسعود : النحاس المهل . وقال الضحاك : هو دُرْدِي الزيت المغلي . وقال الكسائي : هو النار التي لها ريح شديدة . " فلا تنتصران " أي لا ينصر بعضكم بعضا يعني الجن والإنس .


[14559]:وفي التاج بدل هذا البيت: مجللة تعممه شنارا * مضرمة تأجج كالشواظ والفسل من الرجال: الرذل الذي لا مروءة له ولا جلد. والمفسول مثله.
[14560]:زيادة يقتضيها السياق.
[14561]:النجار ـ بكسر النون وضمها ـ الأصل والحسب.
[14562]:الذي في الأصول: "بالضم فيهن" وما أثبتناه هو ما عليه كتب التفسير أي بضمتين وكسر السين.
[14563]:راجع جـ 10 ص 91.
[14564]:راجع جـ 4 ص 233.