محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ} (35)

{ يرسل عليكما شواظ } أي من لهب { من نار ونحاس } أي صفُر مذاب يصبّ / على رؤوسهم { فلا تنتصران } أي تمتنعان وتنقذان منه . يعني : إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول ، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم .

وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها ، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة ، وعبارته :

هذا في مقام الحشر ، والملائكة محدقة بالخلائق ، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ، أي بأمر الله{[6894]} { يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر } وقال تعالى : {[6895]} { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ، ما لهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ولهذا قال تعالى : { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران } والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة ، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا . انتهى .

ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك ، الإمام ابن القيم رحمه الله ، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه ( طريق الهجرتين ) في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى : { إن استطعتم أن تنفذوا } ما مثاله :

وفي الآية تقرير آخر ، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة ، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض ، وأحاط سرادق النار بالآفاق ، فهرب الخلائق ، فلا يجدون مهربا ولا منفذا ، كما قال تعالى :{[6896]} { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين } قال مجاهد : فارّين غير معجزين . وقال الضحاك . إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا ، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك / قوله :{[6897]} { والملك على أرجائها } وقوله :{[6898]} { يا معشر الجن والإنس . . . } الآية . وهذا القول أظهر – والله أعلم – فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين ، يقال لهم : { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض } أي إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم ، فافعلوا . وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول ، فإن قبلها { سنفرغ لكم . . . } الآية ، وهذا في الآخرة ، وبعدها {[6899]} { فإذا انشقت السماء . . . } الآية ، وهذا في الآخرة . وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس . والجن فإنه أتى فيه بصيغة العموم ، وهي قوله : { يا معشر الجن والإنس } فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه ، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر . وقال تعالى : { إن استطعتم } ولم يقل : إن استطعتما ، لإرادة الجماعة ، كما في آية أخرى{[6900]} { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم } وقال :{[6901]} { يرسل عليكما } ولم يقل : يرسل عليكم ، لإرادة الصنفين ، أي لا يختص به صنف عن صنف ، بل يرسل ذلك على الصنفين معا . وهذا ، وإن كان مرادا بقوله :{[6902]} { إن استطعتم } فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن . أي من استطاع منكم . وحسّن الخطاب بالتثنية في قوله : { عليكما } أمر آخر ، وهو موافقة رؤوس الآي ، فاتصلت التثنية بالتثنية . وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما ، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما – والله أعلم- انتهى كلام ابن القيّم .

وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة ، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده ، لأنه ليس من نظائره . فالوجه ما ذكرناه .

{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } قال القاضي : فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار ، من عداد الآلاء .


[6894]:[ 75 / القيامة / 10 –12].
[6895]:[ 10 / يونس/ 27].
[6896]:[40 / غافر / 32و 33].
[6897]:[69 / الحاقة / 17].
[6898]:[ 55 / الرحمان / 33].
[6899]:{55 / الرحمان / 37].
[6900]:[6/ الأنعام / 130].
[6901]:[55 / الرحمان / 35].
[6902]:[55 / الرحمن/33].