قوله تعالى : { ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم } .
وقد تقدم تفسيره وهو كقوله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } وقد ذكرنا فائدة الاختصاص بهذه الأوقات ومعناه ، ونختم هذه السورة بفائدة وهي أنه تعالى قال هاهنا { وإدبار النجوم } وقال في ق { وإدبار السجود } ويحتمل أن يقال المعنى واحد والمراد من السجود جمع ساجد وللنجوم سجود قال تعالى : { والنجم والشجر يسجدان } وقيل المراد من النجم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات والأرض } أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله ، وقد ورد في الحديث : «من قال عقيب الصلاة سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات كتب له ألف حسنة » فيكون المعنى في الموضعين واحد لأن السجود من الوظائف والمشهور والظاهر أن المراد من { إدبار النجوم } وقت الصبح حيث يدبر النجم ويخفى ويذهب ضياؤه بضوء الشمس ، وحينئذ تبين ما ذكرنا من الوجه الخامس في قوله { حين تقوم } أن المراد منه النهار لأنه محل القيام { ومن الليل } القدر الذي يكون الإنسان في يقظان فيه { وإدبار النجوم } وقت الصبح فلا يخرج عن التسبيح إلا وقت النوم ، وهذا آخر تفسير هذه السورة ، والله أعلم ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
49- { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } .
أي : اذكره أثناء الليل ، وخصّ الليل بالذات لأن القيام فيه أشق على النفس .
وقيل : المراد بقوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ . . . أي : صل لله صلاة الليل ، وكان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { يأيها المزمل*قم الليل إلاّ قليلا } . ( المزمل : 1-2 )
وقال سبحانه وتعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } . ( الإسراء : 79 )
وقد مدح المؤمنين والمتقين بقيام الليل ، فقال سبحانه وتعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . ( السجدة : 16-17 )
وقال عز شأنه : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } . ( الذاريات : 15-19 )
وقيل : المراد بتسبيح الله ليلا صلاتا المغرب والعشاء .
والمراد بقوله تعالى : وَإِدْبَارَ النُّجُومِ . أي : سبح الله وصلِّ له عند غياب النجوم ، وذهاب ضوئها ، إذا طلع الفجر الثاني ، وهو البياض المنشق من سواد الليل ، والمراد به صلاة ركعتين قبل الفجر .
وهذا مروي عن كثير من الصحابة ، كما أنه مأثور عن كثير من التابعين .
وعن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يا بن عباس ، ركعتان قبل الفجر ، إدبار النجوم ، وركعتان بعد المغرب ، أدبار السجود " x .
وفي صحيح مسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل ، أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح . xi
وعن عائشة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " xii .
تم بحمد الله تفسير سورة ( الطور ) ظهر يوم الخميس 30من جمادى الآخرة 1421ه ، الموافق 28/9/2000 .
i ورد في الصحيحين في حديث الإسراء : " ثم رفع بي إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا يعودون إليه آخر ما عليهم " ، يعني : يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم .
ii ثم رفع بي إلى البيت المعمور :
رواه البخاري في بدء الخلق ( 3207 ) ومسلم في الإيمان ( 162 ) من حديث أنس .
iii لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت :
رواه البخاري في المرضى ( 5673 ) ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار ( 2816 ) ، من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لن يدخل أحدا عمله الجنة " ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا ، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب "
رواه البخاري في الأدب ( 6000 ) ومسلم في التوبة ( 2752 ) من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " .
v سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4854 ) وابن ماجة في إقامة الصلاة ( 832 ) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون*أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون*أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } . قال : كاد قلبي أن يطير .
vi الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية ، تأليف سليمان بن عمر العجيلي الشافعي ، الشهير بالجمل المتوفى سنة 1204 ه ، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر .
رواه أبو داود في الأدب ( 4859 ) والدارمي في الاستئذان ( 2658 ) وأحمد ( 19270 ) من حديث أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس : " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " . فقال رجل : يا رسول الله ، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ، فقال : " كفارة لما يكون في المجلس " .
viii اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض :
رواه البخاري في التهجد ( 1120 ) ومسلم في صلاة المسافرين ( 1288 ) ، والترمذي في الدعوات ( 3340 ) ، والنسائي في قيام الليل ( 1601 ) ، وأبو داود في الصلاة ( 566 ) ، وابن ماجة في إقامة الصلاة ( 1345 ) ، وأحمد ( 2575 ) ، ومالك في النداء للصلاة ( 541 ) ، والدارمي في الصلاة ( 1448 ) .
رواه البخاري في الجمعة ( 1198 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي خالته قال : فاضطجعت على عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات خواتيم سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ، ثم قام يصلي قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح .
x إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر :
رواه الترمذي في تفسير القرآن ( 3275 ) من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر ، وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب " .
قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد ورشدين بن كريب أيهما أوثق قال : ما أقربهما ، ومحمد عندي أرجح ، قال : وسألت عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا فقال : ما أقربهما ، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي ، قال : والقول عندي ما قال أبو محمد ورشدين أرجح من محمد وأقدم ، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه .
xi لم يكن على شيء من النوافل أشد :
رواه مسلم في صلاة المسافرين ( 724 ) وأبو داود في الصلاة ( 1254 ) وأحمد ( 23647 ) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح .
xii ركعتا الفجر خير من الدنيا :
رواه مسلم في صلاة المسافرين ( 725 ) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " .
وقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ } إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل { وإدبار النجوم } أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح ، وقيل : التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء ، { وإدبار النجوم } ركعتا الفجر ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه . وعلي كرم الله تعالى وجهه . وأبي هريرة . والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل ، و { في النجوم } ركعتا الفجر ، وقرأ سالم بن أبي الجعد . والمنهار بن عمرو . ويعقوب أدبار بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقب أي في أعقابها إذا غربت ، أو خفيت بشعاع الشمس .
ومما ذكروه من باب الإشارة : { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ } أي عند نزول السكينة عليك { وإدبار النجوم } [ الطور : 49 ] أي عند ظهور نور شمس الوجه ، وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام .
هذا ونظم الآيات من قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } إلى قوله سبحانه : { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } [ الطور : 30 43 ] الخ فيه غرابة ولم أر أحداً كشف عن لثامه ك «صاحب الكشف » جزاه الله تعالى خيراً ، ولغاية حسنه وكونه مما لا مزيد عليه أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار مّا ، فأقول : قال : أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى : { بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } [ الأنبياء : 5 ] أحدهما : أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه ، والثاني : أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه ، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءاً لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به ، فالمتعين هو الثاني ، ووجهه والله تعالى أعلم أن قوله : { فَذَكّرْ } [ الطور : 29 ] معناه إذ ثبت كون العذاب واقعاً وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم ، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان ، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفاً في هذه الدار ، ومنزلة ورفعة في دار القرار ، ومن قوله تعالى : { فَمَا أَنتَ } إلى قوله سبحانه : { هُمُ المكيدون } [ الطور : 29 -42 ] تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي ، وقوله سبحانه : { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ } [ الطور : 29 ] الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين ، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولاً على فساد آرائهم ويجعله دستوراً في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأياً وأرجحهم عقلاً وأبينهم آياً منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماماً متبعاً عندهم فأين الكهانة من الجنون ، ثم ترقى مضرباً إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدماً قيل : أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم ، وقوله تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } [ الطور : 31 ] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد ، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولاً تلويحاً بقوله تعالى : { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } وثانياً تصريحاً بقوله جل وعلا . { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم } [ الطور : 32 ] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة ، ثم قيل : لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه ، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراءاً وعجزهم عن الاتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر في الأحقاف ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته ، ثم قد يكون شعره حكماً ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار ، والتدرج عن الشعر ههنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن بناء الكلام ههنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته ، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل : إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة ، وأين هذا من ذاك ؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الإضراب في الرد فقيل : { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ الطور : 33 ] وعقب بقوله تعالى : { فَلْيَأْتُواْ } [ الطور : 34 ] ثم من لا يؤمن أشد إنكاراً له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر ، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ، ثم الشعر ، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة ، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السموات والأرض وما بينهما فهو ينسبه إلى الافتراء حيث لم يرسله ، ثم أضرب صريحاً عنه بقوله تعالى : { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } [ الطور : 36 ] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بما زن ، فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهاراً لتماديهم في العناد ، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفترياً غير صالح للنبوة في زعمهم ، فالأول : لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته ، والثاني : يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفترياً ألبتة ، وأدمح فيه إنكارهم للمعاد ، ونسبتهم إياه صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً خاصة إلى الافتراء ، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } [ الطور : 41 ] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضاً من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : { أَمْ هُمُ المسيطرون } [ الطور : 37 ] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم ، وقيل : بل { لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ } [ الطور : 83 ] وذيل بقوله تعالى : { أَمْ لَهُ البنات } [ الطور : 39 ] إشعاراً بأن من جعل خالقه أدون حالاً منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ، ثم قيل : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } [ الطور : 40 ] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجراً مالاً ، أو جاهاً ، أو ذكراً ، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث ، ثم قيل : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } [ الطور : 41 ] على معنى بل أعندهم اللوم فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب ، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضاً إدماجاً عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } [ الطور : 38 ] فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز إلى الأخير ، ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءاً لحق الإعجاز ، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضاً لأن العلم أشمل مورداً من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه ، وهذا من تلك الحيثية ، ومن حيث أنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضاً مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصداً أولياً ، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيداً فهم ينصبون لك الحبائل قولاً وفعلاً لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولاً وفعلاً وحجة وسيفاً ، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } [ الطور : 43 ] فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إليه غيره ، ومنه يظهر أن حمل { الذين كفروا } [ الطور : 42 ] على المريدين به كيداً أظهر في هذا المساق انتهى ، وكأن ما بعد تأكيداً لأمر طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية ، ويعلم مما ذكره لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة أن { أَمْ } في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية ، والإضراب ههنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء ، وكثير من المفسرين ، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام ، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم .