روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَإِدۡبَٰرَ ٱلنُّجُومِ} (49)

وقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ } إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل { وإدبار النجوم } أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح ، وقيل : التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء ، { وإدبار النجوم } ركعتا الفجر ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه . وعلي كرم الله تعالى وجهه . وأبي هريرة . والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل ، و { في النجوم } ركعتا الفجر ، وقرأ سالم بن أبي الجعد . والمنهار بن عمرو . ويعقوب أدبار بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقب أي في أعقابها إذا غربت ، أو خفيت بشعاع الشمس .

ومما ذكروه من باب الإشارة : { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ } أي عند نزول السكينة عليك { وإدبار النجوم } [ الطور : 49 ] أي عند ظهور نور شمس الوجه ، وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام .

ختام السورة:

هذا ونظم الآيات من قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } إلى قوله سبحانه : { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } [ الطور : 30 43 ] الخ فيه غرابة ولم أر أحداً كشف عن لثامه ك «صاحب الكشف » جزاه الله تعالى خيراً ، ولغاية حسنه وكونه مما لا مزيد عليه أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار مّا ، فأقول : قال : أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى : { بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } [ الأنبياء : 5 ] أحدهما : أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه ، والثاني : أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه ، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءاً لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به ، فالمتعين هو الثاني ، ووجهه والله تعالى أعلم أن قوله : { فَذَكّرْ } [ الطور : 29 ] معناه إذ ثبت كون العذاب واقعاً وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم ، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان ، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفاً في هذه الدار ، ومنزلة ورفعة في دار القرار ، ومن قوله تعالى : { فَمَا أَنتَ } إلى قوله سبحانه : { هُمُ المكيدون } [ الطور : 29 -42 ] تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي ، وقوله سبحانه : { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ } [ الطور : 29 ] الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين ، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولاً على فساد آرائهم ويجعله دستوراً في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأياً وأرجحهم عقلاً وأبينهم آياً منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماماً متبعاً عندهم فأين الكهانة من الجنون ، ثم ترقى مضرباً إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدماً قيل : أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم ، وقوله تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } [ الطور : 31 ] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد ، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولاً تلويحاً بقوله تعالى : { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } وثانياً تصريحاً بقوله جل وعلا . { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم } [ الطور : 32 ] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة ، ثم قيل : لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه ، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراءاً وعجزهم عن الاتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر في الأحقاف ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته ، ثم قد يكون شعره حكماً ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار ، والتدرج عن الشعر ههنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن بناء الكلام ههنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته ، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل : إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة ، وأين هذا من ذاك ؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الإضراب في الرد فقيل : { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ الطور : 33 ] وعقب بقوله تعالى : { فَلْيَأْتُواْ } [ الطور : 34 ] ثم من لا يؤمن أشد إنكاراً له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر ، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ، ثم الشعر ، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة ، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السموات والأرض وما بينهما فهو ينسبه إلى الافتراء حيث لم يرسله ، ثم أضرب صريحاً عنه بقوله تعالى : { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } [ الطور : 36 ] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بما زن ، فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهاراً لتماديهم في العناد ، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفترياً غير صالح للنبوة في زعمهم ، فالأول : لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته ، والثاني : يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفترياً ألبتة ، وأدمح فيه إنكارهم للمعاد ، ونسبتهم إياه صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً خاصة إلى الافتراء ، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } [ الطور : 41 ] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضاً من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : { أَمْ هُمُ المسيطرون } [ الطور : 37 ] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم ، وقيل : بل { لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ } [ الطور : 83 ] وذيل بقوله تعالى : { أَمْ لَهُ البنات } [ الطور : 39 ] إشعاراً بأن من جعل خالقه أدون حالاً منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ، ثم قيل : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } [ الطور : 40 ] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجراً مالاً ، أو جاهاً ، أو ذكراً ، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث ، ثم قيل : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } [ الطور : 41 ] على معنى بل أعندهم اللوم فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب ، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضاً إدماجاً عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } [ الطور : 38 ] فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز إلى الأخير ، ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءاً لحق الإعجاز ، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضاً لأن العلم أشمل مورداً من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه ، وهذا من تلك الحيثية ، ومن حيث أنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضاً مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصداً أولياً ، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيداً فهم ينصبون لك الحبائل قولاً وفعلاً لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولاً وفعلاً وحجة وسيفاً ، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } [ الطور : 43 ] فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إليه غيره ، ومنه يظهر أن حمل { الذين كفروا } [ الطور : 42 ] على المريدين به كيداً أظهر في هذا المساق انتهى ، وكأن ما بعد تأكيداً لأمر طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية ، ويعلم مما ذكره لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة أن { أَمْ } في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية ، والإضراب ههنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء ، وكثير من المفسرين ، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام ، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم .