{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ( 48 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ( 49 ) } .
ودم على احتمال ما تلاقي ، وما ابتلاك الله به ممن تلاقى ، فإنك بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك ، ونزه واحْمَدْ مولاك على كل أحوالك : حين تقوم من مجلسك ؛ ومن الليل فسبح وصل واذكر واحمَدْ واحرص على صلاة في آخر الليل قبل الصبح وحين تتهيأ النجوم للغروب .
في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة على ركعتين قبل الصبح .
خرّج البخاري عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من تعارّ{[5662]} في الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ) .
وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد { وسبح } أي : صلّ والأمر للوجوب { حين تقوم } أي من نومك ، وذلك التهجد ؛ { ومن الليل } صلاة العشاءين : المغرب والعشاء ، { وإدبار النجوم } صلاة الفجر ، ورجح الطبري نحوه- ؛ فكأنه أمر بالإقبال على طاعته ، بعد الفراغ عن دعوة الأمة فليس له شغل إلا هذين{[5663]}-
هذه السور العشر المحكمات فيها الكثير المبارك من تقديس رب العالمين ، ومن البرهان على أنه بديع السماوات والأرض الخلاق العليم ، وأنه وحده الرزاق ذو القوة المتين ، وأنه المحيي المميت العظيم الكريم ، واسع الفضل الشكور الحليم .
ففي تقديسه تبارك وتعالى جاء قوله الحق : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }{[1]} . { هوالذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير }{[2]} ، { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام }{[3]} ، { كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }{[4]} ، { إنا كل شيء خلقناه بقدر ، وما
أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر }{[5]} ، { فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى }{[6]} ، { وأن إلى ربك المنتهى . وأنه هو أضحك وأبكى . وأنه هو أمات وأحيا . وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى . من نطفة إذا تمنى . وأن عليه النشأة الأخرى . وأنه هو أغنى وأقنى . وأنه هو رب الشعرى }{[7]} ، { ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما }{[8]} ، { ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما }{[9]} ، { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }{[10]} ، { . . وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }{[11]} ، { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب }{[12]} ، ومن تقديس المتقين لمولانا الملك الحق المبين ، ما جاء في الكتاب العزيز : { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر{[13]}الرحيم }{[14]} .
بضع وعشرون آية كريمة علمتنا من أسماء ربنا الحسنى ومن صفاته العلا ، ومن جلاله وكماله ما هو أهل له ، فسبح بحمد ربك آناء الليل وأطراف النهار ، وادعه بأسمائه الحسنى إنه هو العزيز الغفار .
وبضع وعشرون كذلك من الآيات المحكمات صرفت سلطان ربنا وبرهانه ، وهدت ودلت على ما يرسخ اليقين بإتقان صنعته وسابغ نعمته لنوحده ونعظم شأنه :
{ الرحمن . علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان . الشمس والقمر بحسبان }{[15]} ، { والأرض وضعها للأنام . فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان }{[16]} ، { مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان }{[17]} ، { خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار }{[18]} ، { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون . ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون }{[19]} ، { وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون }{[20]} ، { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا }{[21]} ، { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج . تبصرة وذكرى لكل عبد منيب . ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد . والنخل باسقات لها طلع نضيد }{[22]} .
كما جادلت الجاحدين بالله الواحد : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون . أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون }{[23]} ، { ولقد أهلكنا أشياعهم فهل من مدّكر }{[24]} ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }{[25]}- وقد تكررت في القرآن ثلاثين مرة بعد هذه . .
وعن الملائكة الكرام عليهم السلام جاء الحديث في آيات من هذه السور ، يُصَرّح بذكرهم أو يشار إلى ما يفعلونه إنفاذا لأمر ربهم : { . . ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما }{[26]} ، { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد . وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد . ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد . وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد }{[27]} ، { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد }{[28]} ، { والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا }{[29]} ، { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين . إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون . فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين . فقربه إليهم قال ألا تأكلون . فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم . فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم . قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم . قال فما خطبكم أيها المرسلون . قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . لنرسل عليهم حجارة من طين . مسومة عند ربك للمسرفين }{[30]} ، { علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى }{[31]} { ولقد رآه نزلة أخرى }{[32]} ، { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا }{[33]} ، { أم له البنات ولكم البنون }{[34]} .
قريبا من ثلاثين آية محكمة ، في أربع متواليات من السور المباركات ، تزيد الإيمان بأن الملائكة الكرام جند مولانا القدوس السلام ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ؛ وثلاث من هذه الآيات تزهق باطل الأفاكين ، الذين افتروا زورا وبهتانا أن الملائكة بنات الله ؛ فأدمغوا إفكهم حجة الله البالغة ، وتعالى الملك الأحد أن يلد بنات أو بنين { . . تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا }{[35]} .
ومن أنباء المرسلين جاءنا في هذه السور العشر ما به العظة والذكرى وترسيخ اليقين .
فمن سننه سبحانه في المصطفين الأخيار أن يبعثهم بالرشد المبين ، وبموازين العدل ، ليستقيم المهتدون على منهاج ينصف الخلق ، ويرعوا أمانة الانتصار للحق ؛ والله يؤيدهم بقوته ، ويعزهم بعزته .
ونبيان كريمان من أولي العزم ، جعل الله تعالى في عقبيهما حكمة ووحيا ، فاستجاب القليل ، وأعرض الكثير ؛ ولم يفترق من بعث إليهم عيسى عن هؤلاء في عظيم أو يسير .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون }{[36]} .
ومن سنته تبارك وتعالى في الذين خلوا من قبل-ولن تجد لسنته تحويلا- أن يمحق الفاسقين ، وينجي المهتدين : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر . ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر . وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر . ولقد تركناها آية فهل من مدّكر }{[37]} ؛ { كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر . إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر . تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر }{[38]} ، { كذبت ثمود بالنذر . فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر . أألقي عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر . سيعلمون غدا من الكذاب الأشر . إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر . ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر . فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر . فكيف كان عذابي ونذر . إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر }{[39]} ، { كذبت قوم لوط بالنذر . إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر . نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر . ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر . ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر . ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر }{[40]} ، { ولقد جاء آل فرعون النذر . كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر . أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر . سيهزم الجمع ويولون الدبر }{[41]} .
وهكذا ! في سورة واحدة ثلاث وثلاثون آية تثبت اليقين في أن الله تعالى ولي المؤمنين ، ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين .
وآيات في سورة( ق ) و( الذاريات ) و( النجم ) أجملت ما فصلته آيات سورة ( القمر ) ؛ { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود . وعاد وفرعون وإخوان لوط . وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد }{[42]} ، { وفي موسى إذ أرسلنا إلى فرعون بسلطان مبين . فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون . فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم . وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم . ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم . وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين . فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون . فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين }{[43]} : { وأنه أهلك عادا الأولى . وثمودا فما أبقى . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشّى }{[44]} .
وقضى ربنا في الذين يفرقون بين الله ورسله ، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض أن يجعلهم في زمرة الهالكين ، ولا يفلح إلا من استيقن بربه ، وصدّق المرسلين : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون . . }{[45]} ، { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . . }{[46]} ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم }{[47]} ، { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا }{[48]} ، { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا }{[49]} ودأب الطاغين-الأولين منهم والآخرين-في تكذيب الداعين ، لا ينفك عن جحود وبهتان مبين ، فكما اتهم المبطلون خاتم النبيين بالتخييل والافتراء : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون }{[50]} ، { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون }{[51]} ، اتهم قوم لوط لوطا : { ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر }{[52]} ، واتهمت ثمود صالحا : { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر . أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر }{[53]} ، وكذلك فعل أسلافهم : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر }{[54]} ، فهو ضلال قديم : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون . أتواصوا به بل هم قوم طاغون }{[55]} .
وعن كتب الله تعالى المنزلة جاء ذكر التوراة والإنجيل في سورة الفتح ، في آخر آية منها ، وأقسم بالكتاب العزيز في مستهل سورة ( ق ) { والقرآن المجيد } ، وختمت بمن ينتفع به { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } ، وتحدى المكذبين به في سورة الطور : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }{[56]} ؛ وفي خواتيم سورة النجم : { أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون }{[57]} ، أما في سورة القمر فقد حضت الآيات على النظر فيه ، والتفكر في معانيه : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }{[58]} ولعل من الحكمة في تكرارها في سورة واحدة أربع مرات{[59]} بيان ثمرات وبركات التذكر والتدبر ؛ وفي سورة الرحمن افتتحت آلاء ربنا بما منّ علينا من تفهم هذا الفرقان : { علم القرآن }{[60]} ؛ وفي سورة الواقعة : أقسم المولى على مجد الذكر الحكيم وعلوه : { فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم . في كتاب مكنون . لا يمسه إلا المطهرون . تنزيل من رب العالمين }{[61]} . ثم تحدى المرتابين فيه ، فقال تقدست أسماؤه : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون . وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }{[62]} .
وفي سورة الحديد توكيد لهدايته : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور . . } من الآية 9 وحض على الإذعان لما جاء فيه : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق . . } من الآية16 وعن اليقين بالآخرة : فكل واحدة من هذه السور العشر تُثبت الإيمان بحياة بعد هذه الأولى ، وتعدنا الوعد الحق أنها دار خلود ، عظيمة أحوالها ، شديدة أهوالها ، وترسخ التصديق بأن الواحد القهار لا يسوي بين المتقين والفجار : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد . وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد }{[63]} ، { ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى }{[64]} . ويقسم المولى- تقدست أسماؤه- فيقول-جلّ وعزّ- : { والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا . إن ما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع }{[65]} ، { والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع }{[66]} ، { إن المجرمين في ضلال وسعر ، يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر }{[67]} ، { إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر }{[68]} .
لكن آيات من سورة الرحمن يستنبط منها أن الثقلين صائرون إلى أصناف ثلاثة : أصحاب سقر : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون . يطوفون بينها وبين حميم آن }{[69]} ؛ وأصحاب درجات عاليات في دار المقامة : { ولمن خاف مقام ربه جنتان }{[70]} ؛ وأصحاب منازل للنعيم أقل من سابقيهم : { ومن دونهما جنتان }{[71]} ؛ أما سورة الواقعة فآياتها المحكمات شهدت أن المكلفين يبوئهم ربهم ما وعدهم من مأوى ، وليسوا سواء ، { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة . وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة . والسابقون السابقون . أولئك المقربون }{[72]} .
هذا وقد شوق الفرقان إلى رحمة ربنا ورضوانه ومقاعد الصدق في الفردوس الأعلى ، كما حذر من مقت الله وسخطه وأليم عذابه في الجحيم واللظى : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما }{[73]} ، { إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم }{[74]} ، { ولمن خاف مقام ربه جنتان }{[75]} { ذوتا أفنان }{[76]} ، { فيهما عينان تجريان }{[77]} { فيهما من كل فاكهة زوجان }{[78]} ، { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنا الجنتين دان }{[79]} ، { { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان }{[80]} ، { كأنهن الياقوت والمرجان }{[81]} ، { ومن دونهما جنتان }{[82]} { مدهامتان }{[83]} { فيهما عينان نضاختان }{[84]} ، { فيهما فاكهة ونخل ورمان }{[85]} ، { فيهن خيرات حسان }{[86]} ، { حور مقصورات في الخيام }{[87]} ، { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان }{[88]} ، { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان }{[89]} في سورة الواقعة { على سرر موضونة . متكئين عليها متقابلين . يطوف عليهم ولدان مخلدون . بأكواب وأباريق وكأس من معين . لا يصدعون عنها ولا ينزفون . وفاكهة مما يتخيرون . ولحم طير مما يشتهون . وحور عين . كأمثال اللؤلؤ المكنون . . جزاء بما كانوا يعملون . لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما . إلا قيلا سلاما سلاما }{[90]} .
في كل سورة يشوّق القرآن الحكيم إلى نعيم فوق نعيم ؛ ومن الحبور الذي بشرت به آيات سورة الطور : طيب النفوس برضوان الوهاب ، والنجاة من العذاب ، ببركة الدعاء المستجاب ؛ ومزيد الفضل وقرة العين بإنجاء الأهل والذرية ؛ ومن البُشْرَيات في سورة الواقعة : مجالس التوقير والتكريم ، فالجلساء متواجهون ، لا يلوي أحدهم صفحته ، ولا يولي قفاه ، ولا يُسمع جارٌ جاره هجرا ؛ ولا هذرا ولا نكرا ، وإنما طيب الكلام وتحية السلام ؛ ومع أشهى المآكل تقدم ألذ المشارب يحملها غلمان إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ؛ وآنية الشراب أكواب من ذهب ، وكأس من قوارير الفضة ، وأباريق مدعاة للسرور من ظاهرها وباطنها .
ويخوف الله عباده عاقبة الركون إلى المفسدين المغوين : { قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد . قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد . ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد }{[91]} ، كما يحذرهم مصير أهل الزيغ والريب : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية . ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير }{[92]} .
والملك المتعال ، ذو العزة والجلال ، يحبب إلينا الجهاد بالأنفس والأموال : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير }{[93]} ، { . . ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير . من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم . يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . . }{[94]} { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم . والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم . . }{[95]} ؛ { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }{[96]} .
إن مولانا تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه-بيّن سبل الفوز بالجنات فقال في محكم الآيات { هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود . لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد }{[97]} ، وأثنى سبحانه على الذين أحسنوا في طلبها ، فقال تعالى : { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون ، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم }{[98]} .
ومن عهد الله وميثاقه في هذه السور العشر المباركات ما واثق عليه عباده من ذكره وتسبيحه : { . . وتسبحوه بكرة وأصيلا }{[99]} ، { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وإدبار السجود }{[100]} ، { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم . ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم }{[101]} ، { فسبح باسم ربك العظيم }{[102]} ، { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }{[103]} ؛ ووصانا جلّ ثناؤه بتفهم الغاية من هذه الدار ، وأنها للاستخلاف والاختبار ، وليست للافتتان بالزخرف بل للتزود إلى دار القرار : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة . . . }{[104]} .
والله يرضى لكم التأسي برسوله الأمين ، وبصحبه الأكرمين . { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }{[105]} ، فكونوا أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، مستكثرين من التبتل والبر والصلاة ، متعاونين على إعزاز حزب الله ؛ والتزموا كلمة التقوى تنزل عليكم السكينة ، ويعجل لكم ربكم النصر .
وحسن الخُلُق حلية الأبرار ، ومنهاج المصطفين الأخيار ، فقد حدّث القرآن أن خليل الرحمن كان يسارع في تكريم الضيفان ؛ { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين . فقربه إليهم قال ألا تأكلون }{[106]} ؛ كما نهانا الفرقان المبين عن سيء الفعل والقول : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا }{[107]} { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . . }{[108]}{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا . . }{[109]} ؛ وأذهب عنا لوثة التفاخر القبائلية ، وبين ما يبتغي به لديه الفضل ، فقال سبحانه القول الفصل : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }{[110]} .