مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ} (4)

قوله تعالى : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه ( أحدها ) : أنه لا يفعل إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلا على النفاق فالصلاة لا مع الخضوع والخضوع أولى أن تدل على النفاق ، لأن الإيذاء والمنع من النفع معاملة مع المخلوق ، أما الصلاة فإنها خدمة للخالق ، ( وثانيها ) : كأنه لما ذكر إيذاء اليتيم وتركه للحض كأن سائلا قال : أليس إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ؟ فقال له : الصلاة كيف تنهاه عن هذا الفعل المنكر وهي مصنوعة من عين الرياء والسهو ( وثالثها ) : كأنه يقول : إقدامه على إيذاء اليتيم وتركه للحض ، تقصير فيما يرجع إلى الشفقة على خلق الله ، وسهوه في الصلاة تقصير فيما يرجع إلى التعظيم لأمر الله ، فلما وقع التقصير في الأمرين فقد كملت شقاوته ، فلهذا قال : { فويل } واعلم أن هذا اللفظ إنما يستعمل عند الجريمة الشديدة كقوله : { ويل للمطففين } { فويل لهم مما كتبت أيديهم } { ويل لكل همزة لمزة } ويروى أن كل أحد ينوح في النار بحسب جريمته ، فقائل يقول : ويلي من حب الشرف ، وآخر يقول : ويلي من الحمية الجاهلية ، وآخر يقول : ويلي من صلاتي ، فلهذا يستحب عند سماع مثل الآية ، أن يقول : المرء ويلي إن لم يغفر لي .

المسألة الثانية : الآية دالة على حصول التهديد العظيم بفعل ثلاثة أمور ( أحدها ) : السهو عن الصلاة ( وثانيها ) : فعل المراءاة ( وثالثها ) : منع الماعون ، وكل ذلك من باب الذنوب ، ولا يصير المرء به منافقا فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على فاعل هذه الأفعال ؟ ولأجل هذا الإشكال ذكر المفسرون فيه وجوها ( أحدها ) : أن قوله : { فويل للمصلين } أي فويل للمصلين من المنافقين الذين يأتون بهذه الأفعال ، وعلى هذا التقدير تدل الآية على أن الكافر له مزيد عقوبة بسبب إقدامه على محظورات الشرع وتركه لواجبات الشرع ، وهو يدل على صحة قول الشافعي : إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع ، وهذا الجواب هو المعتمد

( وثانيها ) : ما رواه عطاء عن ابن عباس أنه لو قال الله : في صلاتهم ساهون ، لكان هذا الوعيد في المؤمنين لكنه قال : { عن صلاتهم ساهون } والساهي عن الصلاة هو الذي لا يتذكرها ويكون فارغا عنها ، وهذا القول ضعيف لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسرا بترك الصلاة ، لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله : { فويل للمصلين } وأيضا فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك لا يكون نفاقا ولا كفرا فيعود الإشكال ، ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مضلين نظرا إلى الصورة وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظرا إلى المعنى كما قال : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة ، أما المسلم الذي يعتقد فيها فائدة عينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة ، بل قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهيا في بعض أجزاء الصلاة ، فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر ( وثالثها ) : أن يكون معنى : { ساهون } أي لا يتعهدون أوقات صلواتهم ولا شرائطها ، ومعناه أنه لا يبالي سواء صلى أو لم يصل ، وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل .

المسألة الثالثة : اختلفوا في سهو الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاته ، فقال كثير من العلماء : إنه عليه الصلاة والسلام ما سها ، لكن الله تعالى أذن له في ذلك الفعل حتى يفعل ما يفعله الساهي فيصير ذلك بيانا لذلك الشرع بالفعل والبيان بالفعل أقوى ، ثم بتقدير وقوع السهو منه فالسهو على أقسام ( أحدها ) : سهو الرسول والصحابة وذلك منجبر تارة بسجود السهو وتارة بالسنن والنوافل ( والثاني ) : ما يكون في الصلاة من الغفلة وعدم استحضار المعارف والنيات ( والثالث ) : الترك لا إلى قضاء والإخراج عن الوقت ، ومن ذلك صلاة المنافق وهي شر من ترك الصلاة لأنه يستهزئ بالدين بتلك الصلاة .