{ بسم الله الرحمن الرحيم لإيلاف قريش إيلافهم } اعلم أن ههنا مسائل :
المسألة الأولى : اللام في قوله : { لإيلاف } تحتمل وجوها ثلاثة ، فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها أو بالآية التي بعدها ، أو لا تكون متعلقة لا بما قبلها ، ولا بما بعدها ( أما الوجه الأول ) : وهو أن تكون متعلقة بما قبلها ، ففيه احتمالات :
الأول : وهو قول الزجاج وأبي عبيدة أن التقدير : ( فجعلهم كعصف مأكول ) لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش ، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف ، فإن قيل : هذا ضعيف لأنهم إنما جعلوا : { كعصف مأكول } لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتأليف قريش ، قلنا هذا السؤال ضعيف لوجوه ( أحدها ) : أنا لا نسلم أن الله تعالى إنما فعل بهم ذلك لكفرهم ، فإن الجزاء على الكفر مؤخر للقيامة ، قال تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } وقال : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } ولأنه تعالى لو فعل بهم ذلك لكفرهم ، لكان قد فعل ذلك بجميع الكفار ، بل إنما فعل ذلك بهم : { لإيلاف قريش } ولتعظيم منصبهم وإظهار قدرهم ( وثانيها ) : هب أن زجرهم عن الكفر مقصود لكن لا ينافي كون شيء آخر مقصود حتى يكون الحكم واقعا بمجموع الأمرين معا ( وثالثها ) : هب أنهم أهلكوا لكفرهم فقط ، إلا أن ذلك الإهلاك لما أدى إلى إيلاف قريش ، جاز أن يقال : أهلكوا لإيلاف قريش ، كقوله تعالى : { ليكون لهم عدوا وحزنا } وهم لم يلتقطوه لذلك ، لكن لما آل الأمر إليه حسن أن يمهد عليه الالتقاط .
الاحتمال الثاني : أن يكون التقدير : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } { لإيلاف قريش } كأنه تعالى قال : كل ما فعلنا بهم فقد فعلناه ، لإيلاف قريش ، فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ، حتى صاروا كعصف مأكول ، فكل ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش .
الاحتمال الثالث : أن تكون اللام في قوله : { لإيلاف } بمعنى إلى كأنه قال : فعلنا كل ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم : { رحلة الشتاء والصيف } تقول : نعمة الله نعمة ونعمة لنعمة سواء في المعنى ، هذا قول الفراء : فهذه احتمالات ثلاثة توجهت على تقدير تعليق اللام بالسورة التي قبل هذه ، وبقي من مباحث هذا القول أمران :
الأول : أن للناس في تعليق هذه اللام بالسورة المتقدمة قولين : ( أحدهما ) أن جعلوا السورتين سورة واحدة واحتجوا عليه بوجوه : ( أحدها ) : أن السورتين لابد وأن تكون كل واحدة منهما مستقلة بنفسها ، ومطلع هذه السورة لما كان متعلقا بالسورة المتقدمة وجب أن لا تكون سورة مستقلة ( وثانيها ) : أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة ( وثالثها ) : ما روي أن عمر قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى { والتين } ، وفي الثانية { ألم تر } و{ لإيلاف قريش } معا ، من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ( القول الثاني ) : وهو المشهور المستفيض أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل ، وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها فليس بحجة على ما قالوه ، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا ويبين بعضها معنى بعض ، ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة ، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه من يقول به ، وقوله : { إنا أنزلناه } متعلق بما قبله من ذكر القرآن ، وأما قوله : إن أبيا لم يفصل بينهما فهو معارض بإطباق الكل على الفصل بينهما ، وأما قراءة عمر فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين .
البحث الثاني : فيما يتعلق بهذا القول بيان أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سببا لإيلاف قريش ؟ فنقول : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى : { بواد غير ذي زرع } إلى قوله : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم ، ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ، ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله ، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة ، لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب ، وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر ، فلهذا قال الله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } { لإيلاف قريش } { رحلة الشتاء والصيف } . ( والوجه الثاني ) : فيما يدل على صحة هذا القول أن قوله تعالى في آخر هذه السورة : { فليعبدوا رب هذا البيت الذي } إشارة إلى أول سورة الفيل ، كأنه قال : فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل ، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتبا على إيصال المنفعة ، فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة .
القول الثاني : وهو أن اللام في : { لإيلاف } متعلقة بقوله : { فليعبدوا } وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت ، لإيلاف قريش أي : ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة واعترافا بها ، فإن قيل : فلم دخلت الفاء في قوله : { فليعبدوا } ؟ قلنا : لما في الكلام من معنى الشرط ، وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة .
القول الثالث : أن تكون هذه اللام غير متعلقة ، لا بما قبلها ولا بما بعدها ، قال الزجاج : قال قوم : هذه اللام لام التعجب ، كأن المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش ، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وجهلا وانغماسا في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم ، وينظم أسباب معايشهم ، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه ، ونظيره في اللغة قولك لزيد وما صنعنا به . ولزيد وكرامتنا إياه . وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء .
المسألة الثانية : ذكروا في الإيلاف ثلاثة أوجه ( أحدها ) : أن الإيلاف هو الإلف قال علماء اللغة : ألفت الشيء وألفته إلفا وإلافا وإيلافا بمعنى واحد ، أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا ، وقرأ أبو جعفر : ( لإلف قريش ) . وقرأ الآخرون ( لإلاف قريش ) ، وقرأ عكرمة ( ليلاف قريش ) ( وثانيها ) : أن يكون هذا من قولك : لزمت موضع كذا وألزمنيه الله ، كذا تقول : ألفت كذا ، وألفنيه الله ويكون المعنى إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف ألف بنفسه إلفا وآلفه غيره إيلافا ، والمعنى أن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله وهو كقوله : { ولكن الله ألف بينهم } وقال : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } وقد تكون المسرة سببا للمؤانسة والاتفاق ، كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش ، فيكون المصدر ههنا مضافا إلى المفعول ، ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشا ملازمين لرحلتيهم ( وثالثها ) : أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء وابن الأعرابي فيكون المصدر على هذا القول مضافا إلى الفاعل ، والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا ، وقرأ أبو جعفر ( ليلاف ) بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفا كليا وهو كمذهبه في { يستهزءون } وقد مر تقريره .
المسألة الثالثة : التكرير في قوله : { لإيلاف قريش إيلافهم } هو أنه أطلق الإيلاف أولا ثم جعل المقيد بدلا لذلك المطلق تفخيما لأمر الإيلاف وتذكيرا لعظيم المنة فيه ، والأقرب أن يكون قوله : { لإيلاف قريش } عاما يجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم ، فيدخل فيه مقامهم وسيرهم وجميع أحوالهم ، ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله : { وجبريل وميكائيل } وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة ، تقول العرب : ألفت كذا أي لزمته ، والإلزام ضربان إلزام بالتكليف والأمر ، وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه إذا أحب المرء شيئا لزمه ، ومنه : { وألزمهم كلمة التقوى } كما أن الإلجاء ضربان ( أحدهما ) لدفع الضرر كالهرب من السبع ( والثاني ) : لطلب النفع العظيم ، كمن يجد مالا عظيما ولا مانع من أخذه لا عقلا ولا شرعا ولا حسا فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ ، وكذا الدواعي التي تكون دون الإلجاء ، مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع ، وهو المراد في قوله : { إيلافهم } .
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن قريشا ولد النضر بن كنانة ، قال عليه الصلاة والسلام : «إنا بني النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا » وذكروا في سبب هذه التسمية وجوها ( أحدها ) : أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تنطلق إلا بالنار وعن معاوية أنه سأل ابن عباس : بم سميت قريش ؟ قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، تعلو ولا تعلى ، وأنشد :
وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا
والتصغير للتعظيم ، ومعلوم أن قريشا موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة ، فإن الأئمة من قريش ( وثانيها ) : أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد ( وثالثها ) قال الليث : كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكنا ، فسموا قريشا لأن التقرش هو التجمع ، يقال : تقرش القوم إذا اجتمعوا ، ولذلك سمي قصي مجمعا ، قال الشاعر :
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا *** به جمع الله القبائل من فهر
( ورابعها ) : أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج ، فسموا بذلك قريشا ، لأن القرش التفتيش قال ابن حرة :