مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

قوله تعالى : { إن شانئك هو الأبتر } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجوها ( أحدها ) : أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد ، والعاص بن وائل السهمي يدخل فالتقيا فتحدثا ، وصناديد قريش في المسجد ، فلما دخل قالوا من الذي كنت تتحدث معه ؟ فقال : ذلك الأبتر ، وأقول : إن ذلك من إسرار بعضهم مع بعض ، مع أن الله تعالى أظهره ، فحينئذ يكون ذلك معجزا ، وروي أيضا أن العاص بن وائل كان يقول : إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره واسترحم منه ، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير ( القول الثاني ) : روي عن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتاه جمامة قريش فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة ، فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ؟ فقال : بل أنتم خير منه فنزل : { إن شانئك هو الأبتر } ونزل أيضا : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } ( والقول الثالث ) : قال عكرمة وشهر بن حوشب : لما أوحى الله إلى رسوله ودعا قريشا إلى الإسلام ، قالوا : بتر محمد أي خالفنا وانقطع عنا ، فأخبر تعالى أنهم هم المبتورون ( القول الرابع ) : نزلت في أبي جهل فإنه لما مات ابن رسول الله قال أبو جهل : إن أبغضه لأنه أبتر ، وهذا منه حماقة حيث أبغضه بأمر لم يكن باختياره فإن موت الابن لم يكن مراده ( القول الخامس ) : نزلت في عمه أبي لهب فإنه لما شافهه بقوله : تبا لك كان يقول في غيبته : إنه أبتر ( والقول السادس ) : أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط ، وإنه هو الذي كان يقول ذلك ، واعلم أنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك ، ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه .

المسألة الثانية : الشنآن هو البغض والشانئ هو المبغض ، وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال : بترته أبتره بترا وبتر أي صار أبتر وهو مقطوع الذنب ، ويقال للذي لا عقب له أبتر ، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له ، وكذلك لمن انقطع عنه الخير .

ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك المبغض على سبيل الحضر فيه ، فإنك إذا قلت : زيد هو العالم يفيد أنه لا عالم غيره ، إذا عرفت هذا فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام : إنه أبتر لا شك أنهم لعنهم الله أرادوا به أنه انقطع الخير عنه .

ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين ، أو على جميع الخيرات ( أما الأول ) : فيحتمل وجوها ( أحدها ) قال السدي : كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر ، فلما مات ابنه القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر فليس له من يقوم مقامه ، ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة ، فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع ، ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة ( وثانيها ) قال الحسن : عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه ، والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك ، فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين ، وصارت رايات الإسلام عالية ، وأهل الشرق والغرب لها متواضعة ( وثالثها ) : زعموا أنه أبتر لأنه ليس له ناصر ومعين ، وقد كذبوا لأن الله تعالى هو مولاه ، وجبريل وصالح المؤمنين ، وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب ( ورابعها ) : الأبتر هو الحقير الذليل ، روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ، ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف ، ثم قال : قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا ، فلما وصلوا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت خديجة بساطا ، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه ، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفا كالجبل ، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى الله عليه وسلم على أقبح وجه ، فلما رجع أخذه باليد اليسرى ، لأن اليسرى للاستنجاء ، فكان نجسا فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره ، فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله : { إن شانئك هو الأبتر } هذه الواقعة ( وخامسها ) : أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف ، قيل : { إن شانئك هو الأبتر } أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى ، وأما المدح الذي ذكرناه فيك ، فإنه باق على وجه الدهر ( وسادسها ) : أن رجلا قام إلى الحسن بن علي عليهما السلام ، وقال : سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية ، فقال : لا تؤذيني يرحمك الله ، فإن رسول الله رأى بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلا فرجلا فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فكان ملك بني أمية كذلك ، ثم انقطعوا وصاروا مبتورين .

المسألة الثالثة : الكفار لما شتموه ، فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة ، فقال : { إن شانئك هو الأبتر } وهكذا سنة الأحباب ، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه ، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم ، وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة } فقال سبحانه : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } وحين قالوا : هو مجنون أقسم ثلاثا ، ثم قال : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } ولما قالوا : { لست مرسلا } أجاب فقال : { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } وحين قالوا : { أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون } رد عليهم وقال : { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } فصدقه ، ثم ذكر وعيد خصمائه ، وقال : { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } وحين قال حاكيا : { أم يقولون شاعر } قال : { وما علمناه الشعر } ولما حكى عنهم قوله : { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } سماهم كاذبين بقوله : { فقد جاءوا ظلما وزورا }

ولما قالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق } أجابهم فقال : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } ] فما أجل هذه الكرامة .

المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة ، وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهورا ، لا جرم وعده بقهر العدو ، فقال : { إن شانئك هو الأبتر } وفيه لطائف ( إحداها ) : كأنه تعالى يقول : لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك ، وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ ( وثانيها ) : وصفه بكونه شانئا ، كأنه تعالى يقول : هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك ، والمبغض إذا عجز عن الإيذاء ، فحينئذ يحترق قلبه غيظا وحسدا ، فتصير تلك العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو ( وثالثها ) : أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتر ، لأنه كان شانئا له ومبغضا ، والأمر بالحقيقة كذلك ، فإن من عادى محسودا فقد عادى الله تعالى ، لاسيما من تكفل الله بإعلان شأنه وتعظيم مرتبته ( ورابعها ) : أن العدو وصف محمدا عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة ، ونفسه بالكثرة والدولة ، فقلب الله الأمر عليه ، وقال العزيز من أعزه الله ، والذليل من أذله الله ، فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام ، والأبترية والدناءة والذلة للعدو ، فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف .

المسألة الخامسة : اعلم أن من تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر . روي عن مسيلمة أنه عارضها فقال : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر ، إن مبغضك رجل كافر ، ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه ( أحدها ) : أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة ، وهذا لا يكون معارضة ( وثانيها ) : أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها ، وكالأصل لما بعدها ، فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالا لأكثر لطائف هذه السورة ( وثالثها ) : التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله : { إن شانئك هو الأبتر } وبين قوله : إن مبغضك رجل كافر ، ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف آخر ، فوصفه بأنه لا ولد له ، وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له ، وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر ، فالله سبحانه مدحه مدحا أدخل فيه كل الفضائل ، وهو قوله : { إنا أعطيناك الكوثر } لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء ، لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة ، ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات ، لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب ، أما طاعة البدن فأفضله شيئان ، لأن طاعة البدن هي الصلاة ، وطاعة المال هي الزكاة ، وأما طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله ، واللام في قوله : { لربك } يدل على هذه الحالة ، ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن ، فقدم طاعة البدن في الذكر ، وهو قوله : { فصل } وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيها على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه ، فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة ، وعلى أنه لا بد من الإخلاص ، ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد ، كأنه يقول : كنت ربيتك قبل وجودك ، أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات ، ثم كما تكفل أولا بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه ، وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم ، والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .