مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ} (3)

المرتبة الثانية : من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : { وأن استغفروا ربكم } .

والمرتبة الثالثة : قوله : { ثم توبوا إليه } واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه :

الوجه الأول : أن معنى قوله : { وأن استغفروا } اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة ، فقال : { ثم توبوا إليه } لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة . وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة ، والأمر في الحقيقة كذلك ، لأن المذنب معرض عن طريق الحق ، والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات ، فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده ، فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات ، وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب ، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة .

الوجه الثاني : في فائدة هذا الترتيب أن المراد : استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف .

الوجه الثالث : وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ، ثم توبوا من الأعمال الباطلة .

الوجه الرابع : الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي . والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي ، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله ، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس .

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة ، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين ، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة ، أما المنافع الدنيوية : فهي المراد من قوله : { يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى } وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال ، وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » وقال أيضا : « خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل » وقال تعالى : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية . ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما ؟

الجواب : من وجوه . الأول : المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا . الثاني : أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارة بقوله : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك } الثالث : وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر ، كان الابتهاج والسرور أتم ، لأنه أمن من تغير مطلوبه ، وأمن من زوال محبوبه ، فأما من كان مشتغلا بحب غير الله ، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ، فكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا ، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته { فلنحيينه حياة طيبة }

السؤال الثاني : هل يدل قوله : { إلى أجل مسمى } على أن للعبد أجلين ، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير ؟

والجواب : لا . ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين ، فثبت أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط .

السؤال الثالث : لم سمى منافع الدنيا بالمتاع ؟

الجواب : لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى : { إلى أجل مسمى } فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ، ثم لما بين تعالى ذلك قال : { ويؤت كل ذي فضل فضله } والمراد منه السعادات الأخروية ، وفيها لطائف وفوائد .

الفائدة الأولى : أن قوله : { ويؤت كل ذي فضل فضله } معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك . وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصا لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت ، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية ، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات ، فهذا هو المراد من قوله : { ويؤت كل ذي فضل فضله } .

الفائدة الثانية : أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا ، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية ، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية ، فلهذا السبب قال : { ويؤت كل ذي فضل فضله } .

الفائدة الثالثة : أنه تعالى قال في منافع الدنيا : { يمتعكم متاعا حسنا } وقال في سعادات الآخرة { ويؤت كل ذي فضل فضله } وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده . وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه ، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده ، فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع .

ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال : { وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } والأمر كذلك ، لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى ، { من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها ، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزا عن الوصول إلى محبوبه ، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء ، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم ، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية .