ولما تقدم أنه نذير وبشير . أتبع ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفاً على { ألا تعبدوا } مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره { وأن استغفروا ربكم } أي اطلبوا مع الإخلاص في العبادة أن يغفر لكم المحسن إليكم ما فرطتم فيه ؛ وأشار بأداة التراخي إلى علو رتبة التوبة وأن لا سبيل إلى طلب الغفران إلا بها فقال : { ثم توبوا إليه } أي ارجعوا بالظاهر والباطن رجوعاً لا رجعة فيه وإن كان المراد بها الدوام فجليل رتبته غير خفي{[38762]} { يمتعكم } أي يمد في تلذيذكم بالعيش مداً ، من متع النهار : ارتفع ، والضحى : بلغ غايته ، وأمتعه الله بكذا : أبقاه وأنشأه إلى أن يبلغ شبابه{[38763]} ؛ ولما{[38764]} ، كان التمتيع - وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كدر - لا يكون إلا في الجنة {[38765]}فلذلك جعل المصدر{[38766]} { متاعاً } {[38767]}وأنه وضع موضع " تمتيعاً " ، هذا المصدر{[38768]} ووصفه بقوله : { حسناً } {[38769]}ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار ، ولقد كان ما أوتيه الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه من الظفر بالإهداء وسعة الدنيا ورغد العيش كذلك{[38770]} { إلى } أي ممتداً{[38771]} إلى { أجل مسمى } أي في علمه{[38772]} إما بالموت لكل واحد أو بانقضاء ما ضربه من الأجل للنعمة التي أشار إليها { ويؤت كل ذي فضل } أي عمل فاضل { فضله } أي جزاء ما قصد بعمله على وجه التفضيل منه سبحانه فإنه لا يجب لأحد عليه شيء ، وهو مع ذلك على حسب التفضيل : الحسنة بعشرة{[38773]} أمثالها ؛ قال ابن مسعود : وهلك من غلبت آحاده عشراته .
ولما انقضى التبشير مجزوماً به ، أتبعه التحذير مخوفاً منه لطفاً بالعباد واستعطافاً لهم فقال : { وإن تولوا } أي تكلفوا أنفسكم ضد ما طبعها الله عليه من سلامة الفطرة و{[38774]} سهولة الانقياد من{[38775]} الإعراض ولو أدنى درجاته بما{[38776]} أشار إليه حذف التاء { فإني أخاف عليكم } أي والعاقل من أبعد عن المخاوف { عذاب يوم كبير* } أي لكبر ما فيه من العذاب ممن{[38777]} قدر على إثباتكم ، وخص اسم الرب تذكيراً بما له من النعم في الإيجاد والإنشاء{[38778]} والتربية ؛ {[38779]}ولما كان الاستغفار - وهو طلب الغفران - مطلوباً في نفسه لكنه لا يعتبر إلا إذا قرن بالتوبة ، عطف عليه ب { ثم } إشارة إلى عظيم رتبتها وعلى منزلتها وإن كان المراد بها الدوام عليها فجليل رتبته غير خفي ، وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلى أنه لم يقع التكليف إلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق ، لأن الفضل في الأصل ما{[38780]} فضل عن الإنسان وتعانيه من كريم الشمائل ، وما كان كذلك فهو في{[38781]} الذروة من الإحكام ، لأنه منع الفعل من الفساد ؛ والحكيم من الحكمة وهي العلم{[38782]} بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقض ، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح ، وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }{[38783]}[ المائدة : 66 ] وأن الإعراض سبب الضيق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " { و{[38784]}يؤت كل ذي فضل فضله{[38785]} } إشارة إلى ثواب الآخرة ، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير{[38786]} في كتابه في مناسبة هذه السورة للتي قبلها{[38787]} . ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت - من آي التنبيه والتحريك للفطر{[38788]} ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيب والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم - ما لم يشتمل{[38789]} على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها ، وسبب تكرر ذلك فيها - والله أعلم - أنها أعقبت بها السبع الطوال ، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن{[38790]} الصراط المستقيم على اختلاف أحوالهم ، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم ، ثم اتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحذروا وأنذروا ، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين ، وتم المقصود من هذا في {[38791]}سورتي الأنفال{[38792]} وبراءة ، ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم ، فكان مظنة تأكيد{[38793]} التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة ، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها ، ألا ترى افتتاحها بقوله :{ إن ربكم الله }[ يونس : 3 ] الآيات . ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى :{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم }[ البقرة : 21 ] ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى :{ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله }[ يونس : 38 ] ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين ، فمن التنبيه{ إن ربكم الله }[ يونس : 3 ] ، { هو الذي جعل الشمس }[ سورة يونس ، آية : 5 ] ، { إن في اختلاف الليل والنهار }[ سورة يونس ، آية : 6 ] ، { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده }[ يونس : 34 ] ، { قل هل من{[38794]} شركائكم من يهدي إلى الحق }[ سورة يونس ، آية : 35 ] ، { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض }[ سورة يونس ، آية : 101 ] - إلى غير هذا ، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله :{ يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم }[ سورة يونس ، آية : 108 ]
فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة {[38795]}ويونس{[38796]} تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين ، فلما تقرر هذا كله أتبع المجموع بقوله : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما { الحكيم الخبير } ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله :{ يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم }[ سورة يونس ، آية : 108 ] وقد كان تقدم قوله تعالى :{ قد جاءتكم موعظة من ربكم }[ يونس : 57 ] فأتبع قوله : { قد جاءكم الحق من ربكم } بقوله في صدر سورة هود{ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت }[ هود : 1 ] فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة ، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، وحق توبيخهم في قوله تعالى :{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه }[ يونس : 39 ] والعجب في عمههم{[38797]} مع إحكامه وتفصيله ولكن{ الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون }[ يونس : 96 ] وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة{ وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك }[ هود : 120 ] ، و{ جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين }[ هود : 120 ] فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى ، وإنما الإشارة - والله أعلم - بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال{[38798]} بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعيه أخذاً وتركاً ، وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم ، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرُّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى{ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم }[ إبراهيم : 22 ] وقد بسط{[38799]} من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه{[38800]} وعرفهم به وذكر اليهود والنصارى والمشركون{[38801]} والصابئون والمنافقون وغيرهم ، وفصل مرتكب كل فريق منهم كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاماً وتركاً ما أوضح طريقهم ، وعين حزبهم وفريقهم{ أولئك الذين هدى الله }[ الأنعام : 90 ] وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلاً ، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان وذكر فريق{[38802]} الجن من مؤمن وكافر وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي وتكرير{[38803]} دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعاً فيه{[38804]} ورحمة وإعلام الخلق بما هو عليه سبحانه وما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، ونبه العباد على الاعتبار وعلموا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم إلى ما تخلل{[38805]} ذلك مما يعجز الخلائق عن{[38806]} حصره والإحاطة به والله يقول الحق وهو يهدي السبيل }[ الأحزاب : 4 ] فما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها . أعقب ذلك بقوله : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } [ هود : 1 ] ثم أتبع هذا بالإيماء إلى فصول ثلاثة{[38807]} عليها مدار آي كتب ، وهي فصل الإلهية ، وفصل الرسالة ، وفصل التكاليف أما الأول فأشار إليه قوله : { ألا تعبدوا إلا الله } [ هود : 2 ] وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه : { إنني لكم منه نذير وبشير } [ هود : 2 ] وأما فصل التكاليف فأشار إليه قوله سبحانه { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } [ هود : 3 ] . وهذه الفصول الثلاثة {[38808]}هي التي تدور{[38809]} عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة ، فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة{[38810]} للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى :{ وجاءك في هذه الحق }[ هود : 120 ] إشارة إلى كمال المقصود وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق وقد وضح من هذا تلاء هذه السورة الكريمة لما تقدمها ، ومما يشهد لهذا - والله أعلم - قوله تعالى :{ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه }[ هود : 17 ] وقوله تعالى{[38811]} :{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا }[ هود : 112 ] فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا }[ هود : 113 ] فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق ، و{[38812]} كيف ينكب من جزم{[38813]} سلوكه من الخلق ! ونظيره{[38814]} قوله سبحانه{ وجاءك في هذه الحق }[ هود : 120 ] عقب ما ذكر سبحانه{ لمن الملك اليوم }[ غافر : 16 ] وقوله :{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله }[ الانفطار : 19 ] فتأمل ذلك{[38815]} والله المستعان - انتهى .