السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ} (3)

المرتبة الثانية : قوله تعالى : { وأن استغفروا ربكم } المرتبة الثالثة : قوله { ثم توبوا إليه } واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه : الأوّل : أنّ معنى قوله { وأن استغفروا } ، أي : اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة . فقال : ثم توبوا إليه ؛ لأنّ الداعي إلى التوبة والمحرك عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة فالاستغفار مطلوب بالذات والتوبة مطلوبة لكونها من مهمات الاستغفار ، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب ، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة .

الثاني : وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا ، أي : ارجعوا إليه بالطاعة . الثالث : الاستغفار طلب من الله تعالى لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أنّ المؤمن يجب عليه أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله ، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة ؛ لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه ، والاستعانة بفضل الله تعالى تقدم على الاستعانة بسعي النفس ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يرتب عليها من الآثار المطلوبة ، ومن المعلوم أنّ المطالب محصورة في نوعين ؛ لأنه إنما يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المرادة من قوله تعالى : { يمتعكم متاعاً حسناً } أي : بطيب عيش وسعة رزق { إلى أجل مسمى } وهو الموت . فإن قيل : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » . وقال أيضاً : «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل » . وقال تعالى : { ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة } [ الزخرف ، 33 ] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدّة والبلية ، ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما ؟

أجيب : بأن المشتغل بعبادة الله ومحبته مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، فكلما كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتمّ كان انقطاعه عن الخلق أتمّ وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه ، وأمّا من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ، وكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً . ولذلك قال تعالى في صفة المشتغلين بخدمته { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل ، 97 ] . وقيل : المراد بالمتاع الحسن : عدم العذاب بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا . وسمى سبحانه وتعالى منافع الدنيا بالمتاع لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ، ونبه تعالى على كونها منقضية بقوله تعالى : { إلى أجل مسمى } فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية . وأمّا المنافع الأخروية فقد ذكرها تعالى بقوله تعالى : { ويؤت } أي : في الآخرة { كل ذي فضل } أي : في العمل { فضله } أي : جزاءه ؛ لأنّ مراتب السعادات في الآخرة مختلفة ؛ لأنها متقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا ، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادة الأخروية غير متناهية ، فلهذا السبب قال تعالى : { ويؤت كل ذي فضل فضله } . وقال أبو العالية : من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة . وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت سيئاته وحسناته كان من أهل الأعراف ثم يدخلون الجنة . وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت له سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقي له تسع حسنات ، ثم يقول ابن مسعود : هلك من غلب آحاده أعشاره . وقوله تعالى : { وإن تولوا } فيه حذف إحدى التاءين ، أي : وإن تعرضوا عما جئتكم به من الهدى { فإني } أي : فقل لهم إني { أخاف عليكم عذاب يوم كبير } هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل . وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف .