قوله : { وَأَنِ استغفروا } فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها عطفٌ على " أن " الأولى ، سواء كانت " لا " بعدها نَفْياً أو نَهْياً ، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى " أنْ " هذه .
والثاني : أن تكون منصوبةً على الإغراءِ .
قال الزمخشريُّ في هذا الوجه : ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة ، ويدل عليه قوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] .
قوله : { ثُمَّ توبوا } عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار ، و " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " في قوله { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة ، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] .
قال شهابُ الدِّين{[18657]} : قوله : " أو استغفروا " إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل " تُوبُوا " ب " أخْلِصُوا التَّوبة " .
قال الفراء : " ثُمَّ " ههنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار .
وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي ، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف .
وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة هي السبب إليها ، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب .
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر ، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر .
قوله : " يُمَتِّعكُم " جوابُ الأمرِ . وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : 40 ] .
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن{[18658]} " يُمْتِعُكُم " بالتخفيف من أمتع .
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ { فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً } بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : 126 ] .
قوله " متَاعاً " في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً ، فهو كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والثاني : أن ينصب على المفعول به ، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به ، فهو كقولك : " متعت زيداً أثواباً " .
قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ " إلى أجلٍ مُسَمًّى " إلى حين الموتِ . فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر " ؟ .
وقال أيضاً : " خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ " .
وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا ، فكيف الجمع بينهما ؟ .
الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار .
الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارةُ بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ }
الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه ، وأَمِنَ من زوال محبوبه .
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله ، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله ؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً ، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] .
فإن قيل : هل يدل قوله { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } على أنَّ للعبدِ أجليْنِ ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير ؟ .
فالجواب : لا ، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة ، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً .
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً ، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا ، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } .
قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } " كُلَّ " مفعول أوَّل ، و " فَضلهُ " مفعولٌ ثانٍ .
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك . والضَّمير في " فَضْلَهُ " يجوز أن يعود على الله تعالى ، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله ، أي : ثوابهُ ، وأن يعود على لفظِ " كُلّ " ، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله ، لا يبخَسُ منه شيئاً ، أي : جزاء عمله .
قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة .
وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة ؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال .
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : " مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة ، ومن{[18659]} زادت سيئاته على حسناته ، دخل النَّار ، ومن استوت حسناته وسيئاته ، كان من أهْلِ الأعرافِ ، ثم يدخلون الجنة " {[18660]} .
ثم قال : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يومُ القيامةِ .
وقرأ الجمهور " تَولَّوْا " بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو : " تَنَزَّلُ " .
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ ، وهذا هو الظَّاهر . ولذلك جاء الخطابُ في قوله : " عليْكُم " .
والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين ، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم ، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم .
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر{[18661]} : " تُوَلُّوا " بضمِّ التَّاءِ ، وفتح الواوِ وضم اللام ، وهو مضارعُ " ولَّى " ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي .
ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر : " وإن تُوُلُّوا " بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول ، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه ؟ وهو فعلٌ ماضٍ ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل ، وضُمَّ ثانيه أيضاً ؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه ، وضُمَّت اللام أيضاً ، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير ، والأصلُ " تُوُلِّيُوا " نحو : تُدحْرجُوا ، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ ، فحذفت فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياءُ ، لأنَّهما أولهما ؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير ؛ فصار وزنهُ " تُفُعُّوا " بحذف لامه ، والواو قائمةٌ مقام الفاعل .
وقرأ الأعرجُ{[18662]} " تُولُوا " بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع " أوْلَى " ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا ، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى .
و " كَبِيرٍ " صفةٌ ل " يَوْمٍ " مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ .
وقيل : بل " كَبيرٍ " صفةٌ ل " عذابَ " فهو منصوبٌ ، وإنَّما خفض على الجوارِ ؛ كقوله : " هذا جُحر ضبٍّ خربٍ " بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل " جُحْرٌ " ؛ وقول امرىء القيس : [ الطويل ]
كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ *** كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ{[18663]}
بجر " مُزَمَّل " وهو صفةٌ ل " كبير " . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.