اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ} (3)

قوله : { وَأَنِ استغفروا } فيها وجهان :

أحدهما : أنَّها عطفٌ على " أن " الأولى ، سواء كانت " لا " بعدها نَفْياً أو نَهْياً ، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى " أنْ " هذه .

والثاني : أن تكون منصوبةً على الإغراءِ .

قال الزمخشريُّ في هذا الوجه : ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة ، ويدل عليه قوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] .

قوله : { ثُمَّ توبوا } عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار ، و " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " في قوله { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة ، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] .

قال شهابُ الدِّين{[18657]} : قوله : " أو استغفروا " إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل " تُوبُوا " ب " أخْلِصُوا التَّوبة " .

قال الفراء : " ثُمَّ " ههنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار .

وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي ، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف .

وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة هي السبب إليها ، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب .

ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر ، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر .

قوله : " يُمَتِّعكُم " جوابُ الأمرِ . وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : 40 ] .

وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن{[18658]} " يُمْتِعُكُم " بالتخفيف من أمتع .

وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ { فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً } بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : 126 ] .

قوله " متَاعاً " في نصبه وجهان :

أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً ، فهو كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .

والثاني : أن ينصب على المفعول به ، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به ، فهو كقولك : " متعت زيداً أثواباً " .

قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ " إلى أجلٍ مُسَمًّى " إلى حين الموتِ . فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر " ؟ .

وقال أيضاً : " خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ " .

وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا ، فكيف الجمع بينهما ؟ .

فالجواب من وجوه :

الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار .

الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارةُ بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ }

[ طه : 132 ] .

الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه ، وأَمِنَ من زوال محبوبه .

وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله ، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله ؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً ، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] .

فإن قيل : هل يدل قوله { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } على أنَّ للعبدِ أجليْنِ ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير ؟ .

فالجواب : لا ، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة ، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً .

وسمى منافع الدُّنيا متاعاً ، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا ، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } .

قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } " كُلَّ " مفعول أوَّل ، و " فَضلهُ " مفعولٌ ثانٍ .

وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك . والضَّمير في " فَضْلَهُ " يجوز أن يعود على الله تعالى ، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله ، أي : ثوابهُ ، وأن يعود على لفظِ " كُلّ " ، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله ، لا يبخَسُ منه شيئاً ، أي : جزاء عمله .

قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة .

وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة ؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال .

وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : " مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة ، ومن{[18659]} زادت سيئاته على حسناته ، دخل النَّار ، ومن استوت حسناته وسيئاته ، كان من أهْلِ الأعرافِ ، ثم يدخلون الجنة " {[18660]} .

ثم قال : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يومُ القيامةِ .

وقرأ الجمهور " تَولَّوْا " بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة ، وفيها احتمالان :

أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو : " تَنَزَّلُ " .

وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ ، وهذا هو الظَّاهر . ولذلك جاء الخطابُ في قوله : " عليْكُم " .

والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين ، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم ، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم .

وقرأ اليماني وعيسى بن عمر{[18661]} : " تُوَلُّوا " بضمِّ التَّاءِ ، وفتح الواوِ وضم اللام ، وهو مضارعُ " ولَّى " ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي .

ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر : " وإن تُوُلُّوا " بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول ، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه ؟ وهو فعلٌ ماضٍ ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل ، وضُمَّ ثانيه أيضاً ؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه ، وضُمَّت اللام أيضاً ، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير ، والأصلُ " تُوُلِّيُوا " نحو : تُدحْرجُوا ، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ ، فحذفت فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياءُ ، لأنَّهما أولهما ؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير ؛ فصار وزنهُ " تُفُعُّوا " بحذف لامه ، والواو قائمةٌ مقام الفاعل .

وقرأ الأعرجُ{[18662]} " تُولُوا " بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع " أوْلَى " ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا ، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى .

و " كَبِيرٍ " صفةٌ ل " يَوْمٍ " مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ .

وقيل : بل " كَبيرٍ " صفةٌ ل " عذابَ " فهو منصوبٌ ، وإنَّما خفض على الجوارِ ؛ كقوله : " هذا جُحر ضبٍّ خربٍ " بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل " جُحْرٌ " ؛ وقول امرىء القيس : [ الطويل ]

كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ *** كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ{[18663]}

بجر " مُزَمَّل " وهو صفةٌ ل " كبير " . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة .


[18657]:ينظر: الدر المصون 4/77.
[18658]:ينظر: المحرر الوجيز 3/149، البحر المحيط 5/202، الدر المصون 4/77.
[18659]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/373).
[18660]:انظر المصدر السابق.
[18661]:ينظر: المحرر الوجيز 3/150 والبحر المحيط 5/202 والدر المصون 4/77.
[18662]:ينظر: البحر المحيط 5/202 والدر المصون 4/77.
[18663]:تقدم.