إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ} (3)

فقيل : { وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ } وهو معطوفٌ على أن لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أنْ مصدريةٌ لجواز كون صلتِها أمراً أو نهياً كما في قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } [ يونس : 105 ] لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دلالتُه على المصدر وهو موجودٌ فيهما ، ووجوبِ كونِها خبريةً في صلة الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبريةً ، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ، ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالة على المصدر سواءً ساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبما ساغ وقوعُ الفعلِ فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي نحوُ تجرّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبال { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } عطف على استغفروا والكلامُ فيه كالكلام فيه والمعنى فُعل ما فُعل من الإحكام والتفصيلِ لتخصّوا الله تعالى بالعبادة وتطلُبوا منه سَتر ما فرَط منكم من الشرك ثم ترجِعوا إليه بالطاعة أو تستمرّوا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفارِ أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي ، وعلى الثاني أنْ مفسرةٌ أي قيل في أثناء تفصيلِ الآياتِ : لا تعبدوا إلا الله واستغفِروه ثم توبوا إليه ، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ تلقينٌ للمخاطَبين وإرشادٌ لهم إلى طريق الابتهالِ في السؤال وترشيحٌ لما يعقُبه من التمتيع وإيتاءِ الفضلِ بقوله تعالى : { يُمَتّعْكُمْ متَاعًا حَسَنًا } أي تمتيعاً ، وانتصابُه على أنه مصدرٌ حذف منه الزوائدُ كقوله تعالى : { أَنبَتَكُمْ منَ الأرض نَبَاتاً } أو على أنه مفعولٌ به وهو اسمٌ لما يُتمتّع به من منافع الدنيا من الأموال والبنينَ وغيرِ ذلك ، والمعنى يُعِيْشُكم عَيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيءٌ مما تشتهون ولا ينغصُه شيءٌ من المكدرات { إلى أَجَلٍ مسَمًّى } مقدّرٍ عند الله عز وجل وهو آخرُ أعمارِكم ، ولما كان ذلك غايةً لا يطمح وراءَها طامحٌ جرى التمتيعُ إليها مجرى التأييدِ عادةً أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ } في الطاعة والعملِ { فَضْلَهُ } جزاءَ فضلِه إما في الدنيا أو في الآخرة ، وهذه تكملةٌ لما أُجمل من التمتيع إلى أجل مسمًّى وتبيينٌ لما عسى يعسُر فهمُ حكمتِه من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحالِ بين العاملين ، فرب إنسانٍ له فضلٌ طاعةٌ وعملٌ لا يُمتّع في الدنيا أكثرَ مما مُتِّع آخرُ دونه في الفضل ، وربما يكون المفضولُ أكثرَ تمتيعاً فقيل : ويُعطِ كلَّ فاضلٍ جزاءَ فضلِه ، إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة ، وذلك مما لا مرد له وهذا ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما سبق من البشارة ، ثم شرُع في الإنذار فقيل : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تتولوا عما أُلقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبةِ ، وإنما أُخّر عن البشارة جرياً على سنن تقدمِ الرحمةِ على الغضب أو لأن العذابَ قد علّق بالتولي عما ذكر من التوحيد والاستغفارِ والتوبةِ وذلك يستدعي سابقةَ ذكرِه ، وقرىء تُوَلّوا من ولى { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } بموجب الشفقة والرأفةِ أو أتوقع { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو القيامةُ وُصف بالكِبَر كما وصف بالعِظَم في قوله تعالى : { أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [ المطففين : 4 ] إما لكونه كذلك في نفسه أو وُصف بوصف ما يكون فيه كما وُصفَ بالثقل في قوله تعالى : { ثَقُلَتْ في السماوات والأرض } الأعراف : 187 ] وقيل : يوُم الشدائد وقد ابتلُوا بقَحطٍ أكلوا فيه الجيَفَ ، وأياً ما كان ففي إضافةِ العذابِ إليه تهويلٌ وتفظيعٌ له .